عاشق فلسطين.. يختصر الغياب
«أنا لا أبكى، كل ما فى الأمر أن غبار الحنين قد دخل عينى»، هكذا عبّر عن نفسه، وعاش حياته، ففى 9 من أغسطس عام 2008، أدركنا أن غبار الحنين عجل بالرحيل، لم يمنحنا فرصة الاستمتاع بوجود شاعر مرهف الاحساس لن يجود بمثله الزمان، «محمود درويش» شاعر الجرح الفلسطينى، الغائر فى القلب العربى، شاعر الحب والثورة والوطن، ارتبط اسمه بشعر الثورة، كونه أحد أهم أدباء المقاومة الذى تحدثت قصائده عن القضية الفلسطينية بمراحلها المختلفة، وهو أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعرب وأبرز من أسهم فى تطوير الشعر العربى الحديث وإدخال الرمزية فيه، لم يخف من العدو، بل كان يقارعه فى أشعاره وكتاباته الإبداعية. أثرت أحداث حياته فى تكوين شخصيته، وكانت لها علاقة وثيقة فى جعله شاعر القضية الفلسطينية، منذ تشكّل الوعى لديه فى سن مبكرة، بدأ كتابة الشعر وهو فى السابعة من عمره. كان محمود درويش فى سن السادسة، عندما أيقظته عائلته ليلاً ليفروا من فلسطين عام 1947 بسبب القذف بالقنابل، ولكن بعد عامين عاد متسللاً إلى قريته «البروة» ليجدها قد دُمرت كلياً، وحلت محلها مستوطنتان يهوديتان، ليحفظ فى ذاكرته صورة الدمار التى طاردته طيلة حياته. ولينتقل بعدها إلى قرية أخرى «دير الأسد» مع أسرته كلاجئين، فهم بالنسبة للقانون الإسرائيلى ليست لهم أى هوية، ثم انتقل إلى قرية «الجديدة» وامتلك بها بيتاً، بالإضافة إلى أنه عاش فى حيفا لمدة 10 سنوات وأنهى فيها دراسته الثانوية. رحلة محمود درويش مع اللجوء والتهجير القسرى كانت مليئة بالأحداث والذكريات التى شكلت وعيه وأثرت فى حياته ووجدانه وذاكرته.عندما تقرأ أشعار محمود درويش تشعر بأنك محلق فى سماء العشق وحب الوطن، كلماته سيف مسلط على رقاب المحتلين، الاحتلال الإسرائيلى يخشى كلماته التى تؤثر فى القاصى والدانى، علم الصغار كيف يكون حب الوطن، مثلما علم الكبار كيف تكون المقاومة، واحترام ثقافة الاختلاف، أبدع فى كتابة الشعر بكل أشكاله، أخلص لقضيته فغاص فى تعقيداتها، كان يحمل هموم الوطن التى ظهرت واضحة فى أشعاره وكتاباته، توارثتها أجيال الثورة ويرددها الفلسطينيون فى كل المناسبات، «درويش» الغائب الحاضر فى كل مناسبة فلسطينية وطنية أو حتى اجتماعية، له حضور القديس فى كل المجالس، وحب الفلسطينيين له كأيقونة لا يختلف عليه أحد. التقيته فى أكثر من مناسبة، كنت أشعر بالفخر أمام هذا الشاعر الكبير، فى معرض القاهرة الدولى للكتاب كان لقاؤنا الأول، حضرت أمسيته الشعرية مع توأمه الشاعر الفلسطينى سميح القاسم وطلبت توقيعهما على كتاب «الرسائل» من تأليفهما، وهو عبارة عن كتاب يجمع رسائلهما المتبادلة، قطعة أدبية منسوجة بخيوط الوجع وإحساس القهر من محتل غاشم، كُتبت بروح الشعر، وأحاسيس الغربة والحنين للوطن. «درويش» كان عصياً على الكلام، تخرج منه الكلمات باقتضاب خصوصاً إذا ما أردت الحديث معه دون موعد مسبق، ومع مرور الوقت عرفت أن ذلك لم يكن تمنعاً، بل هو «الخجل»، نعم كان «محمود درويش» شاعر الثورة الجرىء المغوار فى تناول الشعر كحد السيف، خجولاً فى حياته الشخصية، قليل الكلام، لا يحب المقابلات الصحفية، عندما عاد إلى غزة بعد اتفاق أوسلو، التقيته للمرة الثانية حين استقبلته جموع الفلسطينيين بحفاوة بالغة، فى عرس فلسطينى بامتياز، كان يتحلق حوله نخبة من الأدباء والكتاب ولفيف من كبار المسئولين احتفاءً بعودته فى فندق فلسطين بغزة، كان صامتاً معظم الوقت، عدا بعض كلمات المجاملة والشكر ورد التحية، وفى لقائى الثالث به، رتبنا موعداً من خلال صديق مشترك عبر الهاتف فقد كان حينها فى الأردن، وعندما عاد إلى رام الله وكان عام 1997 ذهبت إليه بعد حصولى على تصريح دخول للضفة الغربية، ودار بيننا حوار صحفى طويل فى الشعر والأدب والسياسة وتعقيدات القضية الفلسطينية امتد على مدار يومين، لقاء صحفى شامل وممتع، وكانت إجاباته حازمة وحاسمة ومقنعة، لها دلالاتها، وتشير لرجل يتحلى ببصيرة ثاقبة، ورؤية ثابتة، أما لقائى الرابع به فكان عندما زرت رام الله عام 2000، وكان حينها يشغل منصب رئيس مركز خليل السكاكينى للثقافة، الذى أسسه عام 1996 ليكون منارة للثقافة والفن، ذهبت لإلقاء التحية، فسلم مازحاً «إوعى تكونى عايزة تعملى حوار» أجبته أننى جئت لإلقاء التحية والاطمئنان عليه.. وضحكنا.عام 2011 اختار الفنان الفرنسى «أرنست بينو»، الذى التقى شاعر فلسطين الراحل محمود درويش قبل ستة أشهر من وفاته، أن يرسم صورة لدرويش بالحجم الطبيعى يبدو فيها شاباً يافعاً واقفاً، نظراته إلى الأمام يتيح للجمهور فيها كتابة تعليق عليها. قال بينو: «أعتقد أن محمود درويش أحد الرموز المهمة التى تعبر عن فلسطين، وتتميز أعماله بأنها مرآة الواقع الفلسطينى فى ماضيه وحاضره». وأضاف: «على مدى شهر ومن بين ثلاثين صورة لمحمود درويش خرجت بهذه الصورة التى تعبر عن درويش الذى أعرفه شاباً متطلعاً إلى الأمام دائماً يتقدم للمواجهة يحمل أشعاره، وسيكون إلى جانب الصورة التى سيكون منها ستون نسخة معلقة فى أماكن مختلفة لم يتم تحديدها بعد مكان يمكن للجمهور أن يكتب تعليقه عليها.