كبرت يا أمي
كبرت يا أمى ولم أعد أُعاتب.. لم أعد أحزن أو أُصدَم أو أندهش.لم أعد أشتاق -يا أمى- إلا لكِ.. لم أعد أحن لتلك الأيام التى لا أذكر تفاصيلها ولا أحلم بأيام حُبلى بمفاجآت لا أتوقعها.لم أعد أنظر فى المرآة طويلاً.. فتلك الطفلة التى كانت تسكنها هربت ولم تعد!كبرت يا أمى وخسرت صبرى فى دروب العمر.. الآن لا أتحمّل الجدال والمناقشة.. بل أتوق دائماً لسحابة الصمت تحملنى بعيداً.الزحام والضجيج والأضواء المبهرة تخترق سلامى.. إنها معركتى اليومية.. معركة بلا جدوى إلا لمزيد من الوحدة.كبرت يا أمى حتى أصبح الجوع نفس الإحساس بالشبع.. أصبحت المشاعر باهتة والسيناريوهات معادة: نفس الرجال فى حُلة جديدة لا تخفى الخداع والكذب!كبرت يا أمى.. حتى لم أعد أكبر، لا طولى يزداد ولا ملامحى تتغير.. ولن يعود شعرى بنياً ولا ابتسامتى صافية ولا القلب خالياً من الطعنات.. لم تعد خلايا عقلى تتجدّد ولا مشاعرى تتألق..كبرت يا أمى وصرت أشبهك تماماً فى نفس هذه السن.. أحمل على كتفى عبء السنين وأبتسم فى صمت ويحار الناس فى فهم سر ابتسامتى.كبرت يا أمى.صرت -بعدك- غريبة فى عالم غريب، لقد تبدّل واقعنا، كل فرد مشغول بالتحاور مع «آلة»، قد تكون شاشة تليفزيون أو كمبيوتر أو موبايل.. ينقلنا إلى عالم آخر متجدّد، كله حيوية وإثارة.. نحن نعيش فى الفضاء الإلكترونى.. حيث نتحرّر من الواجبات الإنسانية والعائلية.. ونرمى هموم العمل وزحمة الحياة.. لكل منا «عالمه الخاص»، الذى صنعه بنفسه ولنفسه وكأننا نسجنا شرنقة تحجبنا عن الواقع ونتقوقع بداخلها لنعانى «وحدة مفتعلة».أحياناً أتصور أن مصير البطلة فى أى مسلسل أصبح أهم من مصير الأخت أو الأخ، وأن الإنسان يعانى درجة ما من درجات «التوحّد مع الذات».. بإرادته.لو اقتحمت عزلة أحدهم وقرّرت أن تحدثه مثلاً عن صلة الرحم، فتبدأ بالحديث الشريف لرسول الله «صلى الله عليه وسلم»: (مَنْ كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فليصلْ رحمَهُ).. ستأتيتك لهجة تهكم.. ويرد عليك بسخرية: (هل تمر بحالة «دروشة»)؟!ثم تتوالى الاتهامات بأن العلاقات الاجتماعية كلها نفعية وانتهازية، ولا أحد يسأل عنك إلا لطلب «مصلحة».. وأن الإنسان الذى يعطى بلا مقابل مريض بحب التضحية، ويعيش دور «الشهيد» بإرادته.. فلا أحد يستحق.وهكذا تتآكل إنسانية البشر، فيتحولون هم أنفسهم إلى آلات، تتحرك حسب بوصلة «الربح».. وكأننا فى «بورصة» لا وجود لأسهم الود والامتنان والواجب فيها!أنا شخصياً لا أتذكر آخر مرة تلقيت فيها باقة ورد، ربما كانت فى عيد الأم، أو كنت مريضة فى المستشفى.. لكننى أتذكر جيداً أننى -ذات مرة- ذهبت لشراء الورود لصديقة كانت مريضة آنذاك.. فسقطت وكسرت يدى ودخلت غرفة العمليات.. فلم تسأل عنى تلك الصديقة!لكننى لم أقاطع بائع الزهور، ولم أخاصم الأغانى، لم أهجر نفسى لأغترب فى عالم الأنانية و«الأنامالى»!ما زلت أفتش فى كل إنسان عن موطن الجمال، أعانق ما أجده من صدق نادر، أتمسّك بلمسة دفء ولو كانت عابرة.. أترانى «ساذجة»؟.. ربما!.أصعب ما فى الحياة أن تعيش مستيقظاً دائماً، ترى عيوب البشر وتجسّدها، تتذكّر خطاياهم وتعيشها ألف مرة، تستدعى الخيانة لكى تحمى نفسك من التعرّض لها مجدّداً.. ألف طعنة جديدة أفضل من الشقاء -كل لحظة- بانكسارات الماضى.نحن نداوى أنفسنا بالتسامح وتجاوز ذنوب الآخر.. قبل أن نمنحهم الغفران.نحتفظ بيدنا طاهرة، ممدودة بالحب، مهما جرحتنا الأشواك وأدمت قلوبنا.المكسب الحقيقى حين يجرحك الآخر أن تظل كما أنت، أن تحتفظ بإنسانيتك ولا تتحول إلى «مسخ» شوهته سهام الآخرين.يبدو أننى لم أكبر بما يكفى.. فعادة أضبط نفسى متلبسة بالحب أحياناً، أو بالحنين، ثم أكتشف أن كل إحساس جميل ما هو إلا «حالة نوستالوجيا»!