«بقية الله خير لكم»
توقفت معك أكثر من مرة أمام «أهل مدين» ونبيهم «شعيب» عليه السلام، وحكيت لك عن مجموعة المعاصى التى وقعوا فيها، وأبرزها عبادة الأيكة (شجرة كبيرة ملتفة)، وقطع طرق التجارة، وتقرير «فرضة» على ما يحمله التجار، وغرامهم بالطرق الملتوية فى الحياة، وولعهم بالتخريب.. يقول الله تعالى فيما نهاهم عنه: «وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا»، لكننى أريد أن أتوقف معك هذه المرة أمام مفهوم الرزق وكيف تعامل أهل مدين معه، وعواقب ذلك على أوضاعهم الاقتصادية.دأب أهل مدين على السرقة فى الميزان، وبخس الناس أشياءهم، وأكل الحقوق مقدمة أساسية من مقدمات الانهيار، وقد جعل هؤلاء رزقهم فى التطفيف فى الميزان، وكانوا يستوفون الكيل حين يشترون، ويبخسون الناس حين يبيعون، وأغلبهم كان يتصور أن ذلك شطارة، من منطلق أن التجارة شطارة، ولعلك تعلم أن كلمة «شاطر» فى اللغة العربية معناها «لص».أراد نبى الله «شعيب» أن يصحح لقومه هذا المفهوم السلبى للرزق، وأنه لا يتحدد فيما يكسبه الإنسان عموماً، بل فى الكسب الحلال، وأن الحرام -مهما كثر- لا يضمن الاستمرارية، بل إن عواقبه داهمة على الفرد والجماعة. فالقليل الحلال يربو، والكثير الحرام يُردى صاحبه، ويفاقم أزمات الواقع، ويؤدى من الناحية الاقتصادية إلى الركود، بما يترتب عليه من خسائر للجميع.قال «شعيب» لقومه كما يحكى القرآن الكريم: «وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ». لقد واجه الرجل المجموع باتزان وأناة، فقد أراد للصورة أن تكتمل عن طريق أمرين: أولهما، إفراد الخالق العظيم بالعبادة، وهو فى ذلك يلمح إلى عبادتهم للمال، وشغفهم به، بغض النظر عن الطريقة التى تم تحصيله بها، وثانيهما، عدم سرقة حقوق الناس، وأن يحصل صاحب الحق على حقه ما دام قد دفع ثمنه.لفت النبى نظر قومه أيضاً إلى قيمة الرزق الحلال، وأن ما يربحه الإنسان من البيع المستقيم خير له ولو قل، عما يربحه من سرقة الناس حتى ولو كثر: «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ». وتعد مسألة الاستقامة فى البحث عن الرزق أو السعى وراءه من المسائل الأساسية التى تحدد الحالة الاقتصادية والمعيشية داخل المجتمعات، والاستقامة هنا تعنى الالتزام بقيم السوق، بما تشمله من بعد عن الغش، أو البخس، أو الاحتكار، وغير ذلك.ربما يفسر لك ذلك ماذا كنا وكيف صرنا؟ فما أكثر ما نردد أن التاجر زمان كان يمد يده للسماء قائلاً: «يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم»، وهو يفتح باب دكانه، ثم نسأل: ما الوضع الآن بالنسبة للغالبية؟ إنه الفارق بين مَن يؤمن بأن «بقية الله خير»، ومَن يرون أن «التجارة شطارة»، حتى لو كانت الشطارة تعنى السرقة.