في وداع العمّ چورچ
Friday, June 16, 2023 - 14:20
كان وداع العمّ چورچ إسحق في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية وداعًا يشبهه تمامًا، وصدق الذي قال إن مصر كلها كانت حاضرة هناك، وهو يحبّ جدًا ذلك وظلّ يعمل من أجل ذلك. بين جميلٍ كثير كُتِب عن چورچ إسحق أعجبني قول أحد رفاق دربه أحمد بهاء الدين شعبان إن "لبعض الأشخاص موهبة تتمثّل في نشر الوئام"، ومن المؤكد أن العم چورچ كان بارعًا في موهبة نشر الوئام. يأخذ عزاءه كتفًا بكتف مع أفراد الأسرة صديقان أحدهما ناصري والآخر ليبرالي، وتدخل قيادات إسلامية متكئة على سواعد رموز يسارية وقومية، وراهبات كاثوليك يعلو وجوههن الوجوم بجوار محجبة تنتحب ويختلط نشيجها بالنشيج المنبعث من الصف الأول حيث تقف زوجته مدام فاتن، وجوه توارت من سنين عادت في وداع چورچ للظهور مرة أخرى، وورد أبيض يلتف حول صليب يحرس صندوقه، لا أحبّ كلمة نعش. تصدّق يا عمّ چورچ؟ لقد تمنيتُ كثيرًا أن أدخل الكاتدرائية لأشارك أصحابي الاحتفال بالعيدين الصغير والكبير لكن دخولها كانت له تعقيدات كثيرة لم أستطع تجاوزها، ثم إذا بك تجئ لتفّك الشفرات وتحّل العُقَد وتتيح لي الدخول الأول للكاتدرائية، فشكرًا لك. مع أنني لم أخاطبك أبدًا بلفظ عمّ حفظًا للمسافات والمقامات ولأننا أيضًا مختلفان فأنت على يسار يساري، إلا أنني وجدتني إذ فجأةً أستخدم هذا اللفظ بإفراط، وأشترك مع عموم الناس الذين اعتادوا أن يقرّبوا إليهم أناسًا تربطهم بهم كيمياء الروح وليس بالضرورة صلة القرابة، فكنتَ أنت العمّ چورچ كما كان عبد الرحمن الأبنودي هو الخال.
• • •
صعب جدًا بل لعله مستحيل أن تضع چورج إسحق بين قوسين اثنين، فقوسه مفتوح على اتجاهات وأفكار ومتناقضات بلا عدد. إنه ابن تاجر الذهب والواعظ في جمعية الكتاب المقدّس ببورسعيد الذي ورث من والده البراجماتية وحب الكنيسة. وهو اليساري القُحّ الذي انخرط في حزب التجمع في بداياته مع خالد محيي الدين وهو نفس الشخص الذي دخل حزب العمل الإسلامي مع عادل حسين، حتى إذا جاءت حركة كفاية كانت هي القنطرة التي وصلَت بين التيارين اليساري والإسلامي وعبر من فوقها كثيرون. إنه المنظّر الذي شارك مع شبيهه في موهبة الوئام چورچ عجائبي- العمل التطوعي داخل اللجنة المصرية للعدالة والسلام والذي كان على موجة واحدة مع مفكّر بعمق محمد السيد سعيد، وهو أيضًا الإنسان الهليهلي البسيط جدًا الذي يكلّم عامة الناس بمفردات سهلة ويحدّثهم بحبّ عن كلبه نعناع. إنه السياسي الذي يمارس العمل الحزبي ويتنقّل من حزب لآخر، ثم يتمرّد على المنظومة الحزبية برمّتها ويتحرّر من قيودها فيطرق الأبواب مع صديقه الشاب/ابنه ناصر عبد الحميد، ويشارك في تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير مع نفرٍ من السياسيين والمثقفين والفنانين البارزين، وعندما تندلع ثورة يناير يمشي بين الجموع المحتشدة في ميدان التحرير ساندًا وهاتفًا ومحاولًا تحويل المستحيلات لممكنات كما يقول أخو زوجته المفكّر الكبير نبيل مرقس الذي يحبّه بلا مدى. إنه السياسي الذي يصحّح مواقفه ويراجعها إن لزم الأمر فينتقل من لقاء فندق فيرمونت الداعم لمرشّح جماعة الإخوان إلى صفوف جبهة الإنقاذ للإطاحة بحكم الإخوان. إنه الرجل الذي لم يدخل مطبخ العمل الطلابي الجامعي كما يقول المفكّر سيد كراوية ابن بورسعيد وصديق چورچ الحميم- لأن نهاية الخمسينيات لم تكن تسمح لمطبخ الجامعات المصرية بإنضاج الحركة الطلابية، لكن عندما تهيأَت الظروف في نهاية الستينيات مع أحكام الطيران ومطلع السبعينيات مع حالة اللاسلم واللاحرب تقاطع طريقه مع كل قادة الحركة الطلابية أحمد عبد الله رزّة ومحمد السعيد إدريس وهاني شكر الله وأمين إسكندر وكل أسماء تلك المرحلة من تاريخ الوطن الحبيب، فيندر أن تجد رمزًا لم يشبّك معه العمّ چورچ في قضية أو نشاط أو تنظيم.
• • •
إن چورچ إسحق هو المسيحي الذي لا يشعر أن على راسه بطحة يحسّس عليها لكنه في الوقت نفسه لا يتاجر بمسيحيته. لا يحتاج أن يمتنع عن الطعام والشراب في نهار رمضان ليدلّل على الوحدة الوطنية ويثبت أنه يراعي مشاعر المسلمين، فهو متجاوز هذا التصنيف بمراحل وبما لا يحتاج معه إلى أي أدلّة إضافية لتأكيد أنه چورچ المصري كما وصفه أحمد بهاء الدين شعبان. ومع ذلك فإن أحدًا لا يمكن أن يحرّض مسيحيته ويستنفرها ويستفّزها ويستعديها، وأذكر جيدًا عندما زار وفد من المجلس القومي لحقوق الإنسان مدينة الإسماعيلية للقاء بعض الأسر المسيحية بعد حادث إرهابي تعّرض له المسيحيون في العريش في ذروة موجة الإرهاب، انتقد أحد القساوسة چورچ إسحق لأنه لا يعمل كما ينبغي لصالح المسيحيين- فما كان من العمّ چورچ الذي لا تفارقه الابتسامة إلا أن تحوّل لوَحش كاسر يرّد بعنف على القسيس ويدير له ظهره ويخاطب الوفد بصوته الجهوري "ياللا بينا". إنه وطني بامتياز يبني على المشترك ويدع الخلق للخالق والدين للديّان، ويثور للقضية لا للدين ولا للطائفة، ولذلك كان طبيعيًا جدًا حين تتاح له فرصة العمل على النهوض بالتعليم من خلال أمانة المدارس الكاثوليكية أن يكون حاضرًا بقوة، واثقًا من قدرته على تحويل المستحيل لممكن.
• • •
عشر سنين بالتمام والكمال أمضيتها مع چورچ إسحق في تشكيلين مختلفين للمجلس القومي لحقوق الإنسان، رقمه متاح لكل شاكٍ وكأنه تحوّل إلى ديوان متحرّك للمظالم، يدافع عن الحقوق ولا يتوقّف أمام أسماء أصحابها. ثائر غاضب ناقد مختلف شجاع مؤمن بما يعتقد.. وجملة "ياجماعة مش معقول كده" لا تفارق لسانه. لكنه صديق للجميع بالمعنى الحرفي للكلمة ولن يسمح لك أبدًا أن تعاديه فسوف تأتيك في الأثناء ابتسامته الطيّبة. في التشكيل الحالي للمجلس كان المرض قد بدأ يهاجمه فوهن صوته وكثر غيابه لكنه حيثما حضر أثبت وجوده، وحتى قبل رحيله بنحو أسبوع كان مشاركا في أحد أنشطة المجلس يعطيه ما تيسّر له من روحه وعزمه وإيمانه وابتسامته.
• • •
ياعمّ چورچ، يا أيها الجالس أمامي لعشرة أعوام طويلة بحلوها ومُرها سأفتقد/سنفتقد نموذجك العجيب الصادق، لكن الذي يعزّينا أن رسالتك، وصلَت ففي يوم وداعك كأننا كنّا نراك بكل تفاصيلك وملامحك.
المقال/ د. نيفين مسعد
الشروق
التعليقات