إذا كنتم تعقلون!
الفن المصرى لم يكن محليا أبدا، والفنانون المصريون منذ مطلع القرن العشرين وهم يجولون في أنحاء الوطن العربى يقدمون عروضهم التمثيلية والغنائية في دمشق والقدس وبيروت وتونس وبغداد والخرطوم ومراكش وكل مدينة عربية. يوسف وهبى كان يجول بفرقة رمسيس ليعرض مسرحياته في بلاد العرب، وكذلك نجيب الريحانى وعلى الكسار. أم كلثوم، بجلالة قدرها، لها تسجيلات إذاعية وتليفزيونية من حفلاتها في كل عاصمة عربية، ومثلها عبدالحليم حافظ الذي له بصمات في كل أرض عربية، وتسجيلاته يحتفظ بها الأرشيف في كل إقليم عربى. الأمر نفسه بالنسبة لنجاة وشادية وفريد وفايزة ومحمد رشدى وشكوكو ولبلبة، وبالطبع يسبق عبدالوهاب الجميع في زياراته وحفلاته ولقاءاته مع الأشقاء العرب.
لكن حفلات هؤلاء تختلف كثيرا عما نراه ونسمعه هذه الأيام من فنانين يذهبون إلى هذه العاصمة العربية أو تلك ثم يُغرقون الفضاء الإعلامى بالتصريحات الذليلة المتزلفة الرخيصة التي يمتدحون فيها البلد الداعى والأشخاص أصحاب الدعوة بصورة لا تليق أبدا بالفنان، فالأصل في الفنان هو عزة النفس، والأصل أن الذين دعوه هم الذين يتوجب عليهم أن يشعروا بالامتنان للزيارة لا العكس. أنا لا أعترض على امتداح أي شعب عربى، فأم كلثوم كانت تنثر أزاهيرها وورودها الكلامية مع الإعلاميين العرب في الثناء المستحق على هذا الشعب العربى الكريم أو ذاك المضياف أو الآخر الراقى المحب للفنون، لكنها كانت تمنح ثناءها من موقع المحب الشامخ لا التابع الذليل الذي يكاد لا يصدق نفسه بعد أن حصل على العطايا!.
وأنا هنا لا أقول، كما يتصور البعض، إن هذا يسىء لسمعة مصر أو ينال من مكانتها، لكنى أقول إنه يسحب الاحترام من الفنان الذي يتصاغر ويضع نفسه في مكانة لا يحبها له أحد، وحتى السادة الذين يتضاءل وهو يمتدحهم ويصفهم بصفات قد لا يظنونها هم أنفسهم عن أنفسهم.. هؤلاء لا أعتقد أن تقريظه يسعدهم لأنهم يستشفون النفاق الذي تفوح رائحته بسهولة، وقد يمنعهم الحياء من القول بأن كلام المتزلفين يسىء إليهم من حيث يقصد العكس، ذلك أنه يضعهم في صورة من يشترى الناس بالمال ويُخضعهم حتى ينال المديح القسرى، وأنا لا أعتقد أن هذا صحيح، فالكثير ممن يستضيفون الفن المصرى ويرحبون بالفنانين المصريين إنما يفعلون هذا من باب المحبة الخالصة والتقدير الصادق للفن المصرى، فلماذا يصر بعض الفنانين على الظهور بمظهر المتسول الذي نال من المحسن الكريم العطايا التي فاقت تصوره؟ وهل يا ترى يظنون أن هذا قد يجعل حضورهم متكررا بعد ذلك؟ وحتى لو كان ذلك صحيحا فهل يدركون فداحة الثمن الذي يدفعونه؟. يا أولى الألباب فكروا بشكل عملى، فإذا كانت الكرامة لا تشغلكم كثيرا فليكن التصرف المتزن والتصريحات المتعقلة بابا لأكل العيش، لأن الذين يستقدمونكم لديهم صورة ذهنية طيبة عنكم فلا تكونوا دونها إذا كنتم تعقلون.
المقال / اسامة غريب
المصرى اليوم