محاكم «السوشيال ميديا»
محاكم الـ«سوشيال ميديا» بالغة القسوة، ليست بالضرورة قسوة العدل، ولكنها كثيرًا ما تكون القسوة النابعة من رفاهية إصدار الأحكام، بينما القاضى يشرب فنجان قهوة ويطالع «أوراق القضية» على شاشة الكمبيوتر أو الهاتف المحمول ثم يصدر حكمه بحسب مزاجه فى تلك اللحظة.. يصدر حكمًا على مذيع، وآخر على طبيب، وثالثًا على مهندس، ورابعًا على سياسى.. وهلم جرا.
وتختلف محاكم الـ«سوشيال ميديا» فيما تقوم به من إصدار أحكام، عن التعبير عن الرأى، الذى هو إحدى كبرى مميزات هذه المنصات.. وحتى فى الحالات التى يعبر فيها البعض عن رأيه بعصبية مفرطة، رافضًا قبول مبدأ اختلاف الآراء، فإنها تظل مختلفة عن إصدار أحكام على خلق الله على مدار ساعات اليوم الـ24 طيلة أيام الأسبوع، بما فى ذلك أيام الجمعة والعطلات الرسمية. هذه المحاكم المنصوبة طيلة الوقت، وتلك الأحكام التى تتفجر دون هوادة تعكس قدرًا لا يستهان به من الفصام. فتجد صفحة أحدهم يطغى عليها الوعظ الدينى والإرشاد التربوى حتى تكاد تشعر أن أجنحة ملائكية سترفرف من جنبات التدوينات أو التغريدات، ثم فجأة «يرزع» أحدهم حكمًا يقف على طرف نقيض مما يدعيه من إنسانية ورأفة وسمو أخلاق. وقد تنضح صفحة أخرى بكَمٍّ هائل من إرشادات التنمية البشرية، وأغلبها يكون قائمًا على قيم مثل: التسامح والتعاطف والصفح واللين.. وغيرها، ثم تجد نفس الشخص يصدر حكمًا على أحدهم لمجرد أنه أخطأ أو سها دون قصد.
الجميع موضوع تحت مجهر أحكام مستخدمى الـ«سوشيال ميديا». تجد أحدهم يمعن فى استخدام تقنيات التكبير والتقريب والتركيز كى يرى الشوكة فى الوردة. الغريب أن نفس هؤلاء «القضاة» يصبون الغضب ويلعنون من يمارس عليهم العمل ذاته. ولأن الـ«سوشيال ميديا» حية ترزق، وتشهد فى كل يوم تطورًا أو تمددًا أو تقنيات جديدة تجعل منها أداة شديدة الجاذبية، وفى الوقت نفسه شديدة السُّمية، فإن استخداماتها وآثارها لن تتوقف عند حد معين. ولأن الحجب والمنع والإغلاق أسلحة غير صالحة للاستخدام وعفا عليها الزمان، فإن المطلوب هو التنشئة والتربية والوعى، بحيث يكون المواطن المستخدم متسقًا مع ذاته.. فأن يكون قديسًا فى الصباح ثم ينقلب شيطانًا فى المساء، فهذا يعنى عوارًا فى التربية وفى الوعى. وأن يرتضى أحدهم أن يعلق المشانق على صفحته لخلق الله، لكنه يرفض أن يوجه له أحد انتقادًا، ولو كان بسيطًا، فهذا يؤكد أن لديه مشكلة فى الوعى وفى الإدراك. وحين تستيقظ من نومك ذات صباح وتقرر أن تفتح «فيسبوك» أو «تويتر» أو «إنستجرام» أو غيرها وتطلق اتهاماتك وأحكامك شرقًا وغربًا ويمينًا ويسارًا، فاعلم أن هناك من يفعل نفس ما تفعله، متحججًا بنفس حججك.
الطريف أن دراسة أجرتها جامعتا ولايتى ميشيجان وكاليفورنيا أثبتت وجود علاقةٍ ما بين الإفراط فى استخدام الـ«سوشيال ميديا» والاستمتاع بإغضاب الآخرين وجرحهم.. وهذا يستحق المزيد من البحث.
المقال / امينة خيرى
المصرى اليو م