حدود القلوب
نعيش بقلوب تنبض بحب الحياة فى جميع صورها، ولكل صورة أصحاب وأسماء وحدود ومعانٍ وترجمات وقصص لا تنتهى، طالما كانت القلوب تنبض، وتتغير النبضات من ساعة إلى أخرى، بل من دقيقة إلى ما يليها، وأمام المشاهد التى نراها ونعيشها، فتتسارع أحياناً وتُبطئ وقتاً آخر، وتجرى بجنون ودهشة ورعونة وبخطوات غير محسوبة أوقاتاً أخرى قد تدفع بنا إلى غرف العناية المركزة ويسبقها ألم لا نهائى ينذر ويشير إلى أننا تجاوزنا الحدود ولا بد لنا من عودة.
وإذا كنا فى الحياة نطبّق دائماً الحدود الرسمية بين الدول، فلا بد أن نتبع تلك القوانين مع القلوب والأحبة والآخر الذى يقتسم معنا كل شىء، والذى يعانقنا بنظراته وكلماته فيقتحم الحدود الرسمية المعترَف بها أمام الجميع ويبدأ معنا فى ترسيم جديد أرضى وبحرى يظل ينتقل من عقد إلى آخر، ومن جيل إلى ما يليه حتى يصبح حقيقة لا جدال فيها.
ويعرف الحد فى اللغة العربية بأنه الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر، وجمعه حدود. وترجع فكرة إقامة الحدود منذ القرن التاسع عشر، كما أن إجراءات السفر، وما يرتبط بها من مشكلات التنقل من دولة إلى أخرى لم تكن شائعة حتى نهاية القرن التاسع عشر.
والدول لم تعهد سابقاً الخطوط للفصل فى ما بينها، بل كانت متعارفة على إقليم التخوم، ولم يكن بينها من هذه الأقاليم إلا نقاط معينة تنفّذ من خلالها التجارة وتُقام عندها الجمارك. وعادة فإنه يدخل من ضمن أراضى الدول ورُقعتها السياسية المسطحات المائية التى تقع داخل حدودها، سواء كانت أنهاراً أو بحيرات أو قنوات مائية، وكذلك أجزاء البحار التى تجاور شواطئها، والتى تُعرف بالمياه الإقليمية، وطبقة الجو التى تعلو هذه الرقعة السياسية الموحّدة، وعند هذه الحدود تنتهى سيادة الدولة، وتبدأ سيادة دولة أخرى مجاورة لها بما لها من نظم سياسية واقتصادية خاصة بها وقوانين مختلفة.
أما حدود القلوب فالأمر يتشابه فى بعضه مع تلك السياسة إلى حد ما، وإن اختلف فى أنه يتحول إلى مشاعر ورسومات خيالية ونقاط تفتيش وبحث وحماية، وعلى من يعيشها أن يدرك ويعترف بأنها من أمتع ما يمكن أن يملك ويستمتع بها، فهى ملكية خاصة جداً وعلامات وإشارات لا يراها أو يشعر بها أحد سواه، فعندما يجد نفسه فجأة وقد دخل منطقة الذكريات القديمة بما تضم من قصص الطفولة والشباب والحب الأخضر والأحلام الرومانسية والوجوه الضاحكة دائماً والدموع الطفولية التى تنطلق كالسيول بلا إنذار، فإنه يبدأ حدود قلبه منذ أول علامة وضعها القدر والحظ والنصيب، أما إذا انتقل إلى طريق رسمت فوقه علامات إرشادية وتراصت مبانٍ قديمة تخرج منها رائحة أنفاس أحبة رحلوا وتعلم معهم معنى الحب وألم الفقد، فهذا يعنى أنه وسط أراضيه وداخل حدود نفسية لا فرار منها، كما لو كانت جزءاً من الحدود السياسية التى وضعها البشر، وهى لا وجود لها فى الأصل ورسمها بيده كخطوط متصلة أو مقطعة على الخرائط باستخدام الصور الجوية لتبين الأراضى التى تمارس فيها الدولة سيادتها، والتى تنتفع فيها وحدها بحق الانتفاع والاستغلال.
وللباحثين عن المشاعر المفقودة التى لم يمارسوها ولم يعرفوا فى حياتهم معنى رجفة القلب أو نغزة الشوق أو دقات الفرحة العارمة، لهؤلاء أقدم نصائح من وضعوا لنا الحدود السياسية وألحقوها بكتب القانون الدولى وأفردوا لها أبواباً وفصولاً لنتعلمها ونطبقها كما رسموا الخرائط بأعلى تقنية لتصبح الحدود السياسية فى العالم، والتى تفصل دولة عن أخرى واضحة المعالم ومحدّدة بدقة، فلا بد قبل أن نرسم حدود القلوب أن تتوحّد اللغة والأفكار والميول والاتجاهات، بل والعملة التى يستخدمونها داخلها، وأن ننسى مبدأ الحدود الموروثة التى وضعها القانون الرومانى، وعبّر عنها بمصطلح uti possidetis، ita possideatis بمعنى ستستمر فى امتلاك ما تملك مثلما كنت تملكه لأنه لا بد أن يمنح بسخاء ويدلل ويعطف ويحب حتى يملك حدود قلبه لأن تلك الحدود غير رسمية ولا سياسية ولا تخضع للقانون الدولى.
المقال / خديجة حمودة
الوطن