فجر اليوم السابع
كان آدم غارقاُ في قراءة كتب جده، حين دخل عليه أبوه.. لم ينتبه إلى دخوله.. ظل الأب ينظر إلى ولده طويلاً.. ثم ناداه.. لم يتنبه "آدم" إلى وجوده.. حتى ناداه من جديد..
ارتجف "آدم" وهو يلتفت إلى صوت أبيه وكأن أحداً اختطفه من مكان كان فيه، ووضعه في مكان آخر في لمح البصر.
- الأب: مالك يا آدم؟.
آدم: مالي؟
- الأب: شخصيتك بعد كورونا غيرها قبلها.. حتى الموبايل اللي مكنتش بتسيبه من ايدك راميه بعيد عنك.. صحابك ما بتقابلهمش زي الأول.. ايه اللي جرى لك؟
- آدم: اكتشفت إن الهاي تك وأباطرة السوشيال ميديا هتدمر حياتي.. فقلت أخلع.. انت عارف.. أنا كنت بقعد 10 ساعات أتكلم مع ناس.. مش فاكر من الكلام معاهم أي كلمة.. عشان كده بدور على شات من نوع جديد.
- الأب (باستغراب): شات من نوع جديد إزاي؟.
- آدم: بتكلم مع جدودي.
- الأب: يبقى اللي بتقوله أمك صح.. انت بدأت تخرف زي جدك.
- آدم (ضاحكاً): تقدر تقول لي ايه الفارق بين كلامك مع ناس شايفهم بكاميرا أو مش شايفهم.. وما بين كلامي مع جدي.. كله افتراضي يا والدي.. في كلام بيغذي زي الأكل اللي كانت ماما بتنصحني آكله.. وكلام زي "الفاست فود" بيتخن الجسم ويجيب المرض.. كلامي الافتراضي مع جدي بيغذيني.
- الأب: يعني ايه كلامك مع جدك.. هلاوس يعني ولا ايه؟.
- آدم (ضاحكاً): ما تبالغش يا والدي.. أنا بتكلم مع أفكاره اللي كتبها في كتبه.. كلام صامت.. حاجة صعب عليك تفهمها.
- الأب: يا ريتني عملت بنصيحة أمك.. وحرقت الصندوق ده.. قالت لي هيجيب لنا الفقر ما صدقتهاش.
- آدم (يناوله خاتم أجداده): خد البس خاتم أبوك.
- الأب (برعب): ابعده عني.. دا خاتم كل اللي لبسوه ماتوا.
- آدم (ضاحكاً): يااااه.. دا على كده البشرية كلها لبسته.. تعرف جدي مصطفى لقى الخاتم ده فين؟.. في قبر جدي.. يعني خاتم عاش مع الموت سنين.. اتوكل على الله والبسه.
- الأب: ابعده عني.
- آدم: خلاص ألبسه أنا.. بقول لك.. أنا هروح النهاردة أزور قبر جدي.
- الأب (مستغرباً): دا انت مجنون رسمي.يقف آدم أمام مقبرة جده ساهماً.. في حين يصدر عن الموبايل صوت تلاوة لسورة القيامة.. يصدق القارىء.. يسرح آدم فيما كتبه جده في كتابه "أرواح الصالحين".. يسترجع صوته وهو يقول:"حقيقتان توافق عليهما البشر في هذه الحياة الإيمان بوجود إله خالق لهذا الكون والحياة بعد الموت"."الروح تظل هائمة حول عظام جسدها لأنها تألف الأمكنة التي يناجيهم فيها من يحبونهم".يعود إلى البيت فيجد أمه في انتظاره:
- الأم: أرواح ايه بس يا آدم اللي انت بتتكلم فيها؟.. يا ابني بلاش السيرة دي.
- آدم: لحقتي جدي آدم يا ماما قبل ما يموت؟.
- الأم: لحقته وهو في عز التخريف.في أواخر عمره الذي ناهز التسعين كان "آدم" يتحدث إلى الموتى وكأنه يراهم مثل الأحياء.. كان هذا الأمر يرعب زوجة ابنه.. وكان يزداد رعبها عندما يطلب منها أنواعاً معينة من الأطعمة كان من المعروف عنه أنه لا يأكلها.. تحت زعم أن هناك ضيوفاً سيأكلون معه.. حكت الأم لآدم أن حياة الجد انتهت بموقف شديد الغموض.. فقد أخبرها قبل وفاته بستة أيام أنه نوى الصيام لمدة ثلاثة أيام متصلة وطلب منها أن تقدم له الإفطار مع أذان المغرب.. ففعلت.. وفي ختام اليوم الثالث أخبرها أنه سيصوم عن الكلام لمدة ثلاثة أيام فلا يكلمه أحد.. وفي نهاية اليوم الثالث للصوم عن الكلام.. قال لها: سأموت غداً.. والعجيب أنه مات عند فجر اليوم السابع.
المقال / د محمود خليل
الوطن