تتجلى رحمات شهر القرآن في قلب الصائم، حين تهدأ جذوة شهواته، وتتهاوى تزامنا مع خلو المعدة من الطعام، وإذ بالصائم يستشعر السكينة تغشى قلبه، وينظر إلى كل من حوله بعين الرحمة، و بتلقائية يمد يديه بالعطاء، ويحنو بها على الخصم قبل الصديق، ويغمره شعور كأن روحه تسبح مطمئنة بين أروقة جنة عدن، ويترجم العارفون تلك التجليات بما يسمى "لذة الطاعة".

 

تتردد الرحمة ومشتقاتها في عدة مواضع من آيات الذكر الحكيم، ويبلغ عددها 268 موضعًا، وتبرز رحمة النفس من بين أنواع الرحمة، وتعني بتزكية النفس من خلال التزام صاحبها بركائز التقوى، وتجنبه أسباب الفجور، مما يجعل صاحب النفس الزكية يمشي بين الناس بالرحمة، وهنا يصدق عليه قول الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم": "الراحمون يرحمُهم الرحمنُ، ارحموا من في الأرضِ يرحمْكم من في السماءِ، الرحمُ شِجنةٌ من الرحمنِ فمن وصلها وصله اللهُ ومن قطعها قطعه اللهُ".

 

ويبزغ بريق رحمات شهر الصيام من وسط فروع شجرة رحمة الخالق، وقال الله تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"، وفي آية أخرى يقول: "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ"، ومن أسمى أسماء الله الحسنى الرحمن الرحيم، ويفتتح المولى عز وجل بهما سور القرآن الكريم عقب لفظ "بسم".

 

وتتعاظم رحمة الخالق في عطائه ليس لعباده فقط بل للعالمين، ويمنحهم رحمة مهداة في شخص سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وينثر عطره في الكون كافة، ويراه الخلق قرآنًا يمشي على الأرض، وينزله الله رسالة على النبي في رمضان، ليكون تشريفًا لهذا الشهر الفضيل، وحتى تتوغل رحمته داخل القلوب، وتسمح لبعض الكائنات أن تتخلى عن قسوتها، فيبكي جذع النخلة على فراق الحبيب، وعمر بن الخطاب المعروف بقسوته يحاسب نفسه على بغلة إذا تعثرت، وهي تبعد عنه آلاف الأميال.

 

الصيام يرقق قلب العبد، ويجعله يسعى عشقًا في طلب الرحمة، ولذا يأخذ الصيام بيد العبد نحو أهل الجنة، ليتطابق مع واحد من الثلاثة الذين وصفهم رسولنا الكريم من أهل الجنة، ويقول فيه النبي: "رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم"، وفي معنى آخر كلما أخلص العبد في صيامه، أرتقي درجات أعلى من منازل الرحمة.

 

وينعت الرسول كل من أدرك رمضان ولم يغفر له بالخاسر الفاشل، أما من صام إيمانًا واحتسابًا، فلابد أن تدركه الرحمة، ويٌشفع له يوم القيامة، ويناشد الصيام رب العالمين، ويقول أي ربِ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، هذا وفقًا للحديث الشريف.

 

ومن دلائل رحمة الخالق أن جزاء الصيام له خصوصية، ويخص الصوم لنفسه عن سائر الطاعات، ولا يطلع عليه سوى الله، ويجزي العبد بلا حدود على قدر صيامه، ويصبح للعبد بمثابة طوق نجاة، فيضاعفه إلى أضعاف كثيرة، غير أن بقية الأعمال الصالحة يضاعفها طبقًا لمشيئته، وتبدو كذلك مظاهر الرحمة في رفع الحرج عن المريض والمسافر، يأمرهما بالقضاء في أيام أخر،

 

وحدد الفدية لمن لا يطيقون الصوم، وفي ذات الوقت يتقاضون نفس أجر صائم رمضان ومضاعفاته.

 

 

المقال/ حسين خيري

الأهرام