العذيبات.. وإن طال السفر (3)
بدا لي أن الاقتراب من بيت العذيبات، وهو من طين الأرض التي يقف عليها، إلا أنه بيت المرايا المتعددة.. فكونه إحياءً للتراث، وتأكيدًا لإمكانية حياة البشر في الأثر، حياة فعلية وليست متحفية، وكشفه عن خلفيات فكرية عميقة، وعن مستقبل هذا النمط من البناء، فإن المرء يستطيع أن يرى في انعكاسات مراياه صور وجوه كثيرة شاركت في تشييده بالرأي والدعم والمساندة، وزارته ووجدت نفسها فيه..
وربما كان لقائي بأستاذ العمارة المصري الدكتور عادل فهمي أحد الإشارات الحاسمة التي تقدم الدليل على أن التراث قد يظل غامضًا أو حفنة أحجار متراكمة في زاوية من الأرض، ما لم تلحقه وتعتني به وتتقدم به روح وثابة نحو التحدي الذي يسترد له الدور والغرض.
لم أكن في حاجة إلى كثير من الوصف لأصل إلى بيته في جاردن سيتي، فقد زرت شيخ الكتاب «توفيق الحكيم» في نفس العقار الذي يحمل الرقم 1095 كورنيش النيل، ولم تعد له الآن علاقة بالمكان للأسف، غير لافتة «عاش هنا».
اقترب الأستاذ في جامعة العلوم الحديثة بالسادس من أكتوبر د.عادل فهمي (76 عامًا) من العذيبات وعرف كم كانت مهملة عصية على الطموح، إلا أن الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز اشترى المكان، ليحقق حلمه في إعادة ثقة الناس في تراثهم، وُعرف بـ«حامي التراث»، ليس هذا فحسب إنما رأى في العذيبات صورة من صور المدينة القديمة (الدرعية)، التي هي في واقع الأمر التجسيد الفعلي لثقافة الطين، وهي الثقافة المرتبطة بالإنسان..
فتح لي د.عادل فهمي ما وصفه بـ«كرتونة الذكريات»، وتذكر أنه قال يومًا للأمير سلطان بن سلمان جملة أعجبته لدرجة أنه لم يستنكف أن يكتبها، جملة يقولها للأجانب، عندنا: soul and soil belong together وهذه معناها أن الروح والتربة مرتبطان، وهذا موجود في الإنجيل وفي القرآن، ومادة الطين هي العلاقة الوحيدة ما بين الإنسان والأرض، ويقول د.فهمي لي: سبحان الله ربنا خلق الإنسان من الطين ولم يخلقه من الأسمنت، ثم هو يدفن في الطين.
قضية د.عادل فهمي تتمثل في رفضه القاطع لمباني الحديد والأسمنت، وهو يرى أن الطين أصح من الحديد، بينما الأسمنت يبعث غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو أكبر ملوث بيئي في التاريخ، ويتأسف لأن بيزنس البناء أوصل طن الحديد في مصر إلى عشرين ألف جنيه، وأصبح ثمن شيكارة الأسمنت يساوي أجر عامل في اليوم؛ ما يعني أن إنسانًا يعمل في اليوم بثمن شيكارة أسمنت، وقال لي إن الرجل الذي كان يحوط نفسه بمكان من الطين لم يعد له مكان في العالم، ولن يستطيع أبدًا أن يقيم مكانًا يحتمي فيه.
أما عن دوره في بيت العذيبات فيشير إلى أنه سافر ليساهم في إنشاء البيت بناء على ترشيح أحدهم، وقال له سمو الأمير إنه يريد بناء بيت يعيش فيه من الطين، وأن يترك البيت الأسمنتي الذي كان مقيمًا فيه.
كان ثمة اتفاق بينهما على أن هدف إحياء التراث لدى سمو الأمير، ورؤية الدكتور عادل فهمي، بأن تراث المملكة هو الطين، ودرة التاج فيها، الدرعية، لا يوجد بها بيت مبني إلا من الطين، قبل ظهور البترول والانتقال إلى ناطحات السحاب، وتم الاتفاق على بناء العذيبات بالطين.
عمل د.عادل فهمي من قبل السفر إلى العذيبات في البناء بالطين في بوركينا فاسو والسنغال ومالي والصومال وبنجلاديش وفي ألمانيا التي درس وعاش بها خمسة وعشرين عامًا.. وعرض على سمو الأمير الأبحاث والماكينات التي طورت مادة الطين التي تعزل أربع مرات حرارة عن أي مادة بناء أخرى، كما يمكن إعادة استخدامها مرة ثانية، ووجهة نظره أنه من مادة الطين يمكن إنقاذ أماكن من الماضي العريق كتراث عمراني ويمكن عمل مبانٍ حديثة، قال: نحن أعدنا ثقة الناس في الطين، طورنا طوبة تضارع الطوبة الحديثة التي تشع ثاني أكسيد الكربون، وأرخص، وهذا هو المستقبل..
بني د.عادل فهمي بيت الست سكينة في قرية موسى ميزار بالفيوم، هو الذي يعيش معظم أوقاته في قرية تونس القريبة، وكانت السيدة تنام على حصيرة عائمة في مياه الصرف الصحي.. بيت إنساني ليس فيه ذرة أسمنت، وكتب على كتالوج البيت الذي أطلعني عليه: No cement no cry يعني الأسمنت هو الذي يسبب للإنسان البكاء.. وتؤلمه عمارة الأربع أعمدة والسقف الخرساني، ثم لا يستطيع سكانه جلب تكييف ودفع فاتورة الكهرباء، وأسعده قول الست سكينة له "جزاك الله كل خير" وأن "هذه الدعوة هي جائزة نوبل التي أخذتها.. هذا فخر لي".. بينما طلب محافظ الفيوم 64 بيتًا آخر بنفس الطريقة.. وذكر لي بيتًا في المنصورية بالجيزة، من دورين وبنفس الطوبة، في قرية كفر حكيم "بيت البنات الثلاث" على مساحة 120 مترًا، والذي تكلف تسعين ألف جنيه فقط، وتعيش فيه ثلاث شقيقات أساتذة في الجامعة..
**عن بوابة الأهرام