العذيبات.. وإن طال السفر
زرت مزرعة نخيل العذيبات بالدرعية في الرياض الأسبوع الماضي، حيث رأيت جهودًا حثيثة لإنقاذ منطقة أثرية من براثن الاضمحلال، والأخبار الطيبة ألا أحد يدعي أن العملية اختُتمت، لأن القناعة هناك، أن إنقاذ الأثر عملية مستدامة، وإذ تتقدم على أسس علمية فإنها لا تعطي فقط فكرة عن الماضي وإنما عن التقدم.
سألت الأمير سلطان بن سلمان الذي تابعنا رحلته إلى الفضاء بشغف، وكنا في شرخ الشباب، ما الذي جعله يهبط من الفضاء والسماء الشاسعة إلى الحجر والتراث التليد، طاويًا مسافات زمنية، كطي السجل للكتب.. قال لي إنه لا يعتبر التراث شيئًا من الماضي وإنما جزء من المستقبل.. وهو ربما أراد التعمق في تاريخ بلاده السحيق ليجد الروابط، ولا يسمح للإهمال والنسيان بالتهام المراحل والمسافات الزمانية والمكانية، ومن تلك النقطة قام بتأسيس وترأس مؤسسة التراث الخيرية.
ويبدو أن الأمير سلطان بن سلمان طرق على نفس الفكرة، وهو يقدم جائزته للتراث العمراني والتي حضرتها في اليوم التالي في جامعة الأمير سلطان بن عبدالعزيز، في دورتها السادسة ـ السنة الثانية، تحت رعاية أمير منطقة الرياض الأمير فيصل بن بندر. فقد أكد أهمية التراث العمراني لاقتصاد المستقبل، معتبرًا أنه على كل مواطن أن يستشعر تاريخ وطنه لا أن يعيشه فقط، مشددًا على أن الحراك العمراني والثقافي الذي تعيشه المملكة هذه الأيام سيعزز من هذا الجانب وينميه.
ويعتقد الأمير سلطان بن سلمان أن البدايات الصعبة في عملية رفع الوعي والإيمان بأهمية المحافظة على التراث العمراني، أخذت بالجميع نحو التكاتف حول هذه القضية إلى أن تحقق لها ما تحقق من إنجازات، لم يكن يتوقع أن تكون بحجم التأثير الكبير الذي حدث. ويذهب إلى أن المملكة وخلال فترة قصيرة ستصبح من أهم دول العالم في المحافظة على التراث العمراني والثقافي، مثمنًا ما توليه "رؤية المملكة 2030" التي يشرف عليها سمو ولي العهد، من أهمية بالغة بالتراث باعتباره اقتصاد المستقبل، وأن المملكة تعيش اليوم عصرًا ذهبيًا للتراث.
ونبهني شيخ العمران المصري والعربي الدكتور عادل إسماعيل الفقي، الذي رافقته إلى حفل تكريمه الخاص في الرياض، إلى جهود إعادة المجد إلى الدرعية وما حولها، بهدف العمران وإعادة الإحياء إلى ذلك الجزء العزيز في الذاكرة السعودية من إقليم عارض اليمامة التاريخي جنوبي هضبة نجد.
وقال لي إن الأمير سلطان يمضي في طريقه بسرعة وبحسابات دقيقة، وبأريحية عالية، وعشق للتراث، وذكرني في الوقت نفسه بأنه طيار، وشارك في مهمة فضائية شهيرة في الثمانينيات.
مزرعة العذيبات هي البقعة من وادي حيفة بالدرعية على أطراف الرياض، والتي قرر الأمير سلطان أن يعيش فيها، وسط النخيل وبرك المياه والآبار القديمة والصحراء، وهي في القلب من الدرعية، يسوق إلى العالم عشقه لها، ويستقبل ضيوفه معتزًا ومفاخرًا.. ويستطيع من هناك الإشارة بوضوح إلى المشروع النموذج "الدرعية" الذي يمثل عنده وعند المؤرخين المكان الذي شهد مولد الدولة السعودية، والحلقة الأهم في تاريخ المملكة.
تستطيع أن ترى من مزرعة العذيبات حضارات مرت وقوافل خطت ومعارك، تستطيع أن ترى مقاومة الزمن وجبروته بالطين المجرد الذي أعيد به بناء المكان، وصاحب بيت العذيبات الأمير سلطان يعتقد وهو ما يظهر في خطواته بأن مشروع الدرعية يمثل التجديد وتوظيف الإمكانية لخدمة التاريخ والمستقبل، وتحويل المواطن من دارس وقارئ للتاريخ إلى أن يعيش فيه، هو يسميها بعملية قلب مفتوح، لإدخال دعامة الوطن إلى قلب المواطن.
وأتذكر ما صرح به ذات مرة إلى برنامج تليفزيون تراثي مهم "على خطى العرب" للدكتور عيد اليحيى بأن معرفة التاريخ والوعي به يدفع المواطن إلى التفكير في المستقبل، وأن إعادة الحياة إلى التراث وليس بناء المتاحف وليس العرض المتحفي، يؤسس لثقافة التاريخ، ويعيد بناءها، على خلفية قناعة تامة بأن المواطن في بلده لا يأتي من صحراء جرداء ولا يأتي من لا ثقافة ولسنا شيوخ نفط.
سؤالي الأول للأمير سلطان الذي جال بخاطري حتى قبل أن ألتقيه، أو أتأكد أن الفرصة قد تكون متاحة لأحصل على إجابته، لماذا وهو طيار محترف وبعد ذلك تلقى تدريبًا عالي المستوى ليكون رائدًا في الفضاء، لماذا يعود للتراث، كان الأمير سلطان من التواضع والثقافة ليجيبني بوضوح أن اللحظة الاستثنائية في الفضاء ربطته بتاريخ بلاده العريق، وأنه ليس من الصدفة أو العبث أن ينطلق الإسلام من هذا الموقع على الخريطة، وفي هذا المكان الذي نقف فيه أسس جده الملك عبدالعزيز لمعادلة الجغرافيا والتاريخ، ما مكنه من بناء دولة عصرية.
هنا في العذيبات رؤية واضحة لربط التاريخ بالحاضر وبآفاق المستقبل.. وجاء إلى هذه المرزعة الرئيس الفرنسي جاك شيراك وولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز.. وساهم في إعادة الحياة إلى العذيبات أساتذة عمران مصريون يشهد لهم العالم بالجدارة: د. صالح لمعي، د. عبد الواحد الوكيل، د. عادل فهمي.
رأيت العذيبات كحجر زاوية في مشروع "الدرعية" الكبير وأن كثيرين سيجدون أنفسهم في شغف وعزم لزيارتها... وإن طال السفر.
"عن الأهرام"