تزوير الفلوس والنفوس
في عام 1904 قامت صحيفتان بمصر هما " الأرنب"، و" حمارة منيتي" بتزوير صورة للإمام محمد عبده وهو يراقص سيدة بطريقة معيبة ومن حولهما كلب! التزوير بهدف تلطيخ سمعة الامام كان بإيعاز من الخديو عباس حلمي الثاني الذي لم يكن يطيق الإمام. وفي 6 فبراير 1904 قضت المحكمة بحبس صاحبي الجريدتين. وبعد أكثر من مئة عام على صورة الإمام المزورة تنتحر الآن"بسنت" فتاة كفر الزيات في السابعة عشرة من عمرها بعد أن قام طالبان من الأزهر بتزوير صورة لها عارية ونشرها على فيس بوك. أقسمت بسنت لأمها في رسالة: "ماما ياريت تفهميني أنا مش البنت دي، ودي صور متركبة والله العظيم وقسما بالله"، ثم أنهت حياتها القصيرة. وما بين حادثة الإمام منذ مئة عام وانتحار بسنت الآن، قامت جريدة الأهرام في سبتمبر 2011 لتعظيم وتفخيم الرئيس مبارك بنشر صورته خلال الجولة الأولى من مباحثات السلام بين الفلسطينيين والاسرائليين بحيث أظهرت بالفوتوشوب مبارك في مقدمة الصورة كأنه يقود الجميع، وفي الواقع كان الرئيس الأمريكي أوباما يتقدم الجميع ومبارك في الخلفية! ويتضح من كل ذلك أن التزوير والتزييف موغل في القدم وفي التاريخ ومتجدد أيضا. ولقد أخذ التزوير الذي بدأ بالفلوس يمد خطاه نحو تدمير النفوس والتاريخ والوعي والثقافة. تزييف الفلوس كان أسهل من تزييف الوعي، حتى أن المخابرات الألمانية تمكنت في الحرب العالمية الثانية من تزييف ما يقارب مئة وثلاثين مليون جنيه استرليني! لضرب اقتصاد عدوتها بريطانيا واجبارها على الاستسلام، وسميت العملية"بيرنهارد" على اسم الضابط الألماني صاحب الفكرة المدمرة. وكانت تلك أشهر عملية تزييف في التاريخ المعاصر، أما عمليات تزييف النقود المصرية فقد كانت صغيرة ولم تبدأ إلا بعد أن شرع البنك الأهلي المصري في اصدار الأوراق النقدية في أبريل عام 1899، لكن تاريخنا حافل بعمليات تزييف أكبر وأخطر تمس الوعي، خاصة ما يتعلق بتزوير وتشويه ابطال الحركة الوطنية المصرية خاصة الزعيم أحمد عرابي، وهو ما يقوم به من دون كلل يوسف زيدان حين ينتقص من دور الثائر المصري العظيم، وأيضا ما يقومون به حين يضعون ثورة يوليو داخل خانة " العسكر" كأنها لم تكن ثورة على الملك والاحتلال والاقطاع، وفي كل ذلك تزوير يمتد إلى عهود قديمة حين أطلق الخديو توفيق على ثورة عرابي كلمة " هوجة " لينفي الشعب عن الثورة. ويتواصل تزييف الوعي حين يطلقون على العالم العربي" الشرق الأوسط" لاستبعاد فكرة أن ثمة ما يوحد شعوب ذلك العالم في الكفاح ضد الاستعمار، وسنجد التزوير على أشده في الثقافة عندما يقوم البعض بإعادة كتابة روايات أجنبية بحذافيرها لكن بأسماء أماكن وشخصيات عربية! وعندما يزورون قصص الأفلام الأجنبية، و يضعون الألحان لأغنيات سبق لك أن سمعتها هندية وإسبانية، طبلة طبلة، ونغمة نغمة. وقد أعطى التقدم العلمي لظاهرة التزوير دفعة هائلة للأمام مع ظهور الكمبيوتر ومختلف الأجهزة الحديثة، وبرامج فوتوشوب والماسح الضوئي حتى ليتساءل المرء هل تدفعنا حركة وتقدم العلوم خطوة إلى الأمام وتجرنا خطوتين إلى الخلف؟بهذا الصدد جدير بالذكر أن دار الافتاء أصدرت فتوى أنه لايجوز شرعا استخدام تقنية " deebFake" الشهيرة في تلفيق مقاطع مرئية أو مسموعة للأشخاص.في كل الأحوال فإن حيوية التزوير وقدراته المتجددة على تشويه التاريخ والفن والحقيقة تستدعي إلى النفس الشعور بالغربة الذي عبر عنه الكاتب الألماني كافكا حين قال : " خجلت من نفسي عندما أدركت أن الحياة حفلة تنكرية وأنا حضرتها بوجهي الحقيقي".
"عن الدستور"