اســــمـــاعـــيــــل يــــس .. الــطــيــبـــة والــفـــن
رأيت الفنان الكبير اسماعيل يس مرة واحدة بالمصادفة، كان ذلك عام 1964، في شارع طلعت حرب. رأيته من جانب داخل محل سجائر ومشروبات ضيق ومستطيل. كان واقفا ببالطو كموني طويل، صامتا ينتظر شيئا من البائع. ولم تفارقني صورة وجهه إلى الآن. أكاد أراه أمامي الآن وأنا أكتب. كان يرزح تحت جبل من الحزن، مثل إنسان وحيد، بلا أمل. ظللت واقفا أتأمله من خارج المحل مذهولا: أيعقل أن كل الضحكات التي أطلقها على مدى خمسين عاما قد انقلبت دمعا سيالا داخله؟. تذكرت ذلك حين استهزأ مؤخرا أحد الممثلين باسماعيل يس داخل عمل درامي. قفزت إلى ذهني قصيدة الشاعر أمين حداد التي يقول فيها : " زينات صدقي تزغرط.. وترد الزغاريط .. عالم عبيط .. عبيط وماله؟ ماهو ده جماله .. يغور الكون بحاله .. ويحيا اسماعيل يس". الجاهل الذي أهان الفنان الكبير أهان قلوبنا جميعا، وطفولتنا، وصبانا، وذكرياتنا وأهان الفن الجميل أيضا. في الأعوام ما بين 1952 – 1955 كان سمعة يمثل ستة عشر فيلما في العام الواحد من شدة ما كان الناس يتلهفون على رؤيته! وكان أول من تبرع للمجهود الحربي عام 1956، وآخر من نال تكريما. قدم معظم أعماله مع زميل رحلته أبو السعود الابياري. وفي الستينيات بدأ نجوم جدد في الظهور: فؤاد المهندس، وأمين الهنيدي، وثلاثي أضواء المسرح، بينما كان الإبياري يواصل لأفلام اسماعيل يس كتابة نفس المواضيع المكرورة التي تجاوزها الواقع الاجتماعي، فلم يمثل سمعة ما بين 1963 و1965 سوى فيلمين " المجانين في نعيم"، و" العقل والمال"، وتعثر في فخ التكرار، وبدأت الأضواء تنحسر عنه وحلت لحظة الغروب التي تحل على كل الفنانين والأدباء العظام. في تلك اللحظة رأيت سمعة واقفا، صامتا، عليه جبال من الحزن الأخرس، والعجز، والألم المكتوم. علامتان رئيسيتان امتاز بهما ذلك الفنان الكبير: أنه في كل أعماله السينمائية أو المسرحية كان يسخر من نفسه وليس من الآخرين، من فمه الواسع، من عبطه، من ضعف حيلته، ولن تجد عنده مشهدا واحدا يصفع فيه أحدا على قفاه ليثير الضحك الرخيص كما فعل معظم نجوم الكوميديا ما عدا الريحاني. العلامة الثانية المهمة عند سمعة أنه طيب، كان يترك ذلك الانطباع بقوه، فهل للطيبة علاقة بالفن؟! نعم. بل وعلاقة وثيقة جدا. لأننا إذا حاولنا أن نفسر الطيبة في الفن سنجد أنها أقرب إلى موقف الفنان من الحياة والبشر، إنه لا يحاكم أحدا، لا يدين أحدا، إنه طيب، والفن الذي يقدمه لا يحاسب، ولا يقسو، لكنه يحتضن جراح الآخرين. ربما لهذا تحديدا قال شارلي شابلن عام 1940 في فيلم الديكتاتور : " ذكاؤنا صار وحشيا قاسيا.. إننا بحاجة إلى الطيبة والإنسانية أكثرمن حاجتنا إلى العبقرية والذكاء". وللدقة فنحن بحاجة الى أن تكون الطيبة ركيزة للعبقرية، وأظن أن هذا ما قصده شابلن، وقد كانت ملامح اسماعيل يس وروحه تفيض بكل ذلك. وقد اتصلت رحلة عطاء سمعة ثلاثين عاما من 1935 حتى 1965، وتألق منذ أن بدأ أول بطولة مطلقة له مع ماجدة في فيلم " الناصح" عام 1939، وقدم خلال رحلته الطويلة 400 فيلم، و300 مونولوج، وستين مسرحية! وحين غربت شمسه اضطر للعودة إلى العمل في كباريهات صغيرة، وحينذاك صرح لإحدى المجلات قائلا: " أنا أربعين سنة شغل وتعب.. كنت عامل زي الدواء للانسان المهموم عشان أضحكه.. أنا أربعين سنه جهد ماخدتش شهادة تقدير ولا حتى ميداليه صفيح". في 24 مايو الحالي تكون قد مرت على وفاة ذلك الفنان الكبير تسع وأربعون سنة، ومازال قادرا على أن يحرك الابتسامة وأن يبعث السعادة الغامرة في القلوب، أما الممثلون الذين خرجوا من صناديق التدهور الفكري والفني فلن يتذكرهم أحد إلا بصفتهم علامة على الجهل، والقبح، والفظاظة. أردد مع أخي أمين حداد: " عبيط .. عبيط وماله؟ ماهو ده جماله.. يغور الكون بحاله .. ويحيا اسماعيل يس".
عن الدستور