في حضرة الوعي
لن نختلف على أهمية نشر الوعي في المجتمع المصري ، والسعي إلى هذه المهمة ليس جديدًا، لكنه يتخذ أشكالا مختلفة، حسب العصر والحاجة والتقدير.. وآخر المبادرات كانت لـ وزيرة التضامن الاجتماعي الدكتورة نيفين القباج التي يجب أن نوجه لها الشكر لكونها فكرت فيما كان يجب أن تفكر فيه وزارة الثقافة..
ويرِد على خاطري الآن، وفي حضرة الوعي، كراسات " اعرف عدوك "، وأظن أنها كتيبات دعمتها الدولة لمعرفة المجتمع الإسرائيلي بعد نكسة 67، لنعرف ونعي ماهية العدو الذي استطاع هزيمتنا، وذلك بهدف كسر حلقة النكسة المحكمة على فكرنا وثقافتنا وإرادتنا وسائر أدواتنا الإنتاجية وخطط إزالة آثار العدوان..
وتحدثت إلى الكاتب الكبير عبده مباشر المراسل العسكري الشهير لـ"صحيفة الأهرام" في حرب أكتوبر المجيدة ليذكرني بهذه الكتيبات القديمة، وعرفت منه أن سلسلة " اعرف عدوك " كانت في إصدارين، الأول للمدنيين من هيئة الاستعلامات، والثانية للعسكريين من الشئون العامة للقوات المسلحة .. قال لي إنه قبل 67 كانت الكتب الإسرائيلية أو الكتب الأجنبية التي تتناول إسرائيل ممنوعة من دخول مصر، لدرجة أنه أثناء إعداده رسالة الماجستير عن "المؤسسة العسكرية الإسرائيلية"، استنجد برئيس المخابرات العامة ليذهب إلى مكتبه ويطالع بعض الكتب عن الدولة الصهيونية .
وبعد 67 طلت أسئلة كثيرة عن إسرائيل التي هزمت ثلاث دول عربية في ستة أيام، فانتبه المسئولون وقرروا إصدار سلسلة " اعرف عدوك " والتي كانت شديدة الأهمية، وكانت توزع مجانًا، ويبدو أن ذلك الإجراء المعرفي كان جزءًا من خطة إزالة آثار العدوان، ثم بدأ الصحفيون المهتمون بالبحث عن أصول الكتب التي نقلت عنها " اعرف عدوك " التي تنشرها السلسلة، ويتذكر عبده مباشر أنه والكاتب الرائع الراحل محمود عوض كانا يذهبان إلى مكتبة "هاشيت" في شارع قصر النيل للتوصية باستيراد هذه الكتب.
ولا شك أن الوعي أو نشره هو نوع من التربية الشعبية التي تقوم بها الحكومات، وبالتالي يتضمن في كثير منه الدعاية. وهذه يمكن تمريرها أو مقبولة في المصلحة العامة، مثل الدعاية الصحية أو السكانية، وفي الحد من انتشار من الحوادث، وعدم إلقاء القمامة في الطرقات. لكن الوعي الحقيقي حكاية أخرى، لأنه السطر الأول في قصة الديمقراطية، والوسيلة الوحيدة لإدراك ما يجري من أحداث ومن ثم القدرة على هضمها وتحليلها ووضعها في إطار المصلحة العليا.
وأولى خطوات ترسيخ الوعي هي القراءة، طالما نقرأ ونفهم ونفكر فنسبة الوعي أعلى.. وإذا كان برنامج ومبادرة التضامن الاجتماعي تفتح السقف إلى مساهمة المؤسسات الدينية والتعليم والثقافة والإعلام ومشاركتهم، فمن أجل تطوير هذا المفهوم يجب أن تقدم كل جهة مؤشرات أو خطة لما يمكن أن تقوم به..
ومن المؤكد أن الأمية أحد معطلات الوعي، وتساهم بشكل أساسي في تكريس مفاهيم الجدارة والنخبة والقاطرة المثقفة الواعية، وهي مفاهيم بائسة لأنها تركز السلطة والصعود الاجتماعي والسياسي في دائرة صغيرة.. ولم أفهم وكنا بالأمس (6 يناير) نحتفل عبر تقنية الفيديو كونفرانس بـ"اليوم العربي لمحو الأمية"، لماذا يظل ملف الأمية كاليتيم على مائدة اللئام، من دون مسئولية واضحة ومباشرة تُسند إلى جهة محددة.
ومن خلال ما قرأت من أخبار فإن منصب المشارك المصري في الاحتفال هو رئيس الهيئة العامة لتعليم الكبار الدكتور عاشور عمري، وهي هيئة ذات شخصية اعتبارية تتبع وزارة التربية والتعليم الفني. وهو قال إن الهيئة تسعى إلى إعلان مصر خالية من الأمية خلال الفترة المقبلة، كما أكد أنه في القريب العاجل سيتم إعلان القاهرة بلا أمية لتصل نسبة الأمية إلى الصفر الافتراضي.
هذا حديث متفائل، ولم أكن يوما ضد التفاؤل، لكن الأرقام تقول إن 20 مليونًا يعانون من الأمية في مصر (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2019) بعد أن كانوا 18.4 مليونا عام 2017.. وطرحت وزارة التضامن الاجتماعي في الصيف الماضي مبادرة "حياة كريمة بلا أمية"، وهي أيضًا مبادرة جيدة، على الأقل لأنها تذكرنا بأنه لا حياة كريمة مع الأمية..
وبتحليل الأرقام إذا كنا من أنصار رؤية نصف الكوب الملآن، فإن نصف المصريين بلا أمية، أي يمكنهم القراءة، ولابد أن تكون هناك جهة معنية في وزارة الثقافة بنشر القراءة، وأعرف أن كل مجالس وهيئات الوزارة على جاهزية، من هيئة الكتاب إلى صندوق التنمية الثقافية، ومن هيئة قصور الثقافة إلى المركز القومي للترجمة، وغيرها.. وعندنا أوعية عدة كانت نشطة أكثر في الماضي، مثل مشروعات مكتبة الأسرة والقراءة للجميع، وأقترح على الوزارة تطويرها، وضخ مشروعات جديدة بأسماء أخرى. مع توفير دعم القراءة بأسعار مناسبة، ووضع الكتاب في طريق القارئ..
ويمكن هنا طرح مبادرات تضع الكتاب في كل أماكن الانتظار في محطات القطار وداخل القطار نفسه، وفي حدائق النوادي العامة حيث يجلس الرواد في الشمس أو في الظل، ويمكن أيضًا إرسال الكتب إلى الهواتف لمن لا يتركونها من أيديهم حتى الصباح.
عن (الاهرام)