في ذكرى تسلم نوبل
كان نجيب محفوظ الأديب العربي الأول والأخير الذي يحصل على جائزة نوبل في الأدب .. ربما تسعى الجائزة لكتاب آخرين من أدبائنا يستحقون نوبل باقتدار، ولكن لست قريبًا من سر الأسرار في الأكاديمية السويدية لأعرف عما إذا كان هناك مرشحون عرب لها في السنوات الأخيرة، أو القادمة..
كنت هناك في استكهولم في مثل هذا اليوم، وبترتيب ومجهود كبير من الكاتب محمد سلماوي ، ما أتاح لنا ـ أنا وبعض الزملاء المعنيين بالتحرير الأدبي في صحفنا ومجلاتنا ـ ولولا ذلك كان عصيًا أن يذهب كل هذا العدد (نحو ثلاثين صحفيًا وإعلاميًا) لتغطية وقائع الاحتفال بتسلم الجائزة..
وعندما يحل العاشر من ديسمبر من كل عام أتذكر تلك الأيام، باعتبارها من رحلات العمر، ليس فقط بسبب الجائزة، إنما أعتبر نفسي ممن ارتبطوا وجدانيًا وبصداقة مميزة مع نجيب محفوظ .. رغم إدراكي بأنني عندما تعرفت عليه في العام الأول من عقد الثمانينيات وحتى وفاته، أن هناك من هم أقرب إليه.
أعرف أنه محب لرجاء النقاش، وكذلك ليوسف القعيد وجمال الغيطاني ومحمد سلماوي، وكان هؤلاء أساتذتي وأصدقائي أيضًا.. وأنه محب وقريب من عشرات الزملاء الذين كان لهم حظوظ أعرض مني في اللقاء معه، ربما بشكل شبه أسبوعي، مثل صديقي الكاتب إبراهيم عبدالعزيز، وذلك بخلاف لقاءاتنا التي كانت موسمية في الكثير منها، أعياد ميلاده، الاستعانة برأيه في تحقيق صحفي، حوار لي أو لغيري، فوزه بنوبل، متابعة محاولة اغتياله، وكتابة أخبار عنه... وهكذا..
لقد كانت اللقاءات مع محفوظ بمثابة لحظات تاريخية بالنسبة لي، فيما صداقته لي واحدة من صداقاته الكثيرة، وذات مرة كتبت أن من يدعي صداقة الأستاذ لابد أن نصدقه؛ لأنه كان صديقًا لأعداد مهولة من البشر، كان منفتحًا على الجميع، راضيًا بكل ما في الدنيا من إقبال وإعراض، من مزايا وآلام، ومن بشر بخيرهم النادر وشرهم الواسع..
كما أنه كان في كل وقت مع الكتاب، وأول من يوقع على بيانات المثقفين حتى ضد السلطة، مناصرًا للفكر والإبداع، كل ذلك وسط كتاب يقدمون تقارير في زملائهم وينشرون مقالات لمهاجمة الإبداع تحت دعاوى متخلفة، خصوصًا ما يتعلق بالكتابة عن المرأة والسياسة والدين، وكثيرًا ما كان عمال المطابع يتدخلون ويرفضون طباعة قصص أو قصائد تحت نفس الدعاوى..
وكان محفوظ يرد على الخطابات المرسلة إليه باهتمام شديد، كما أن من يهديه كتابًا يكتب يشكره ويحييه برد مكتوب، يحمل في طياته رأيًا في الكتاب.. وقد أطلعني المحامي أحمد شوقي الخطيب في بداياتي الصحفية، وبالتحديد في شهر مايو سنة 1982، على كلمة ل نجيب محفوظ استعان بها المحامي الكبير في إحدى القضايا. كان الخطيب محاميًا للدكتور لويس عوض في قضية مصادرة كتابه "مقدمة في فقه اللغة العربية"، وكان محفوظ قد تلقى نسخة من عوض، وكتب له رسالة باتت من أوراق القضية: "فقد بهرني منهجه العلمي ودقته الكبرى في البحث والتقصي وبهرني أيضًا أن يصدر مثل هذا العمل الفذ في هذا الجو الثقافي الراكد فهذه هزة نرجو أن تستمر وتزداد قوة حتى ترجع مصر إلى سابق موقعها العلمي في الوسط العربي".
أما ندوات نجيب محفوظ فقد تميزت عن غيرها من ندوات شهيرة لنجوم الثقافة في مصر، وقد تناول الكاتب نعمان عاشور في مؤلفه "مع الرواد" ( هيئة الكتاب سنة 1987) ما أسماه بـ"عصر الندوات الأدبية" معترفًا بأن ندوات كثيرة وصالونات عرفتها الحياة الثقافية في مصر، لكن لم تستمر واحدة أو تشتهر مثلما الندوات التي يكون "نجمها الأول" نجيب محفوظ .
وكتب عاشور عن ندوة "الفصول" لزكي عبدالقادر مساء الإثنين، و"رابطة الأدب الحديث" ليلة الثلاثاء، و"المقتطف"، وندوة جريدة "الأهرام" الليلية التي يعقدها أنطون الجميل ونجمها كامل الشناوي وبقية الشعراء والصحفيين، وندوة "الدكتور ناجي" بعيادته بشبرا مساء الأحد، وندوة "العقاد" الشهيرة صباح الجمعة في منزله بمصر الجديدة، وندوة "خريجي الجامعة" بناديهم وتضم عبدالرحمن الشرقاوي وعبد الحميد الكاتب، و"الرسالة" لأحمد حسن الزيات، و"الشعر" الأسبوعية في نادي موظفي الحكومة بعماد الدين، و"الشبان المسيحيين" وعلي رأسها سلامة موسي و"الشبان المسلمين" وأسسها الدكتور محجوب ثابت، و"نادي الممثلين" وتجمع أحمد علام وحامد مرسي وحسن البارودي.. وهي ندوات مفتوحة يستطيع أن يشهدها كل من له أقل صلة بأحد من أعضائها.
وذكر نعمان عاشور ندوة المرحوم "زكي مبارك" الليلية على قارعة الطريق في ميدان توفيق، وندوة "الفيشاوي" الساخرة ، وتستمر حتى الصباح، ثم ندوة "باب الخلق" في كازينو كان يتوسط الميدان، وندوة "أمين الخولي" وتلاميذه في داره بمصر الجديدة.. ولقاءات ناجي والمازني وبيرم التونسي وزكريا أحمد (أظن يقصد أن لقاءات هؤلاء في مقهى الحرية) وندوة "مقهى الحرية" بميدان الأزهار؛ لأنه ذكر في صفحة تالية: "مقهى الحرية" في ميدان الأزهار كان يتردد عليه المازني وبيرم التونسي وإبراهيم ناجي.
أما الندوة الأشهر في رأي عاشور فقد كانت ندوة قهوة "عبد الله" في الجيزة؛ وسميت كذلك لأن صاحب القهوة هو عم عبدالله، بينما ذلك التعدد الرهيب فإنه حكمه النهائي عنده، من حيث الشهرة والاستمرارية، فقد كان للندوة التي يكون نجمها نجيب محفوظ ..
(عن الأهرام)