أيام مع نجيب محفوظ (8)
لم يكن نجيب محفوظ بعيدًا عن الفن التشكيلي، وكما جرت "مسرحة" بعض من قصصه ورواياته، فإنه جرت أيضًا محاولات أخرى للتعبير عنها بالرسم. ليس فقط رسومات الأغلفة التي أبدع فيها العبقري جمال قطب، ثم حلمي التوني أخيرًا، إنما أيضًا هناك تجربة الأستاذ رجاء النقاش وكان رئيسًا لتحرير مجلة "الإذاعة والتليفزيون" سنة 1971، ونشر رواية "المرايا" مصحوبة بصور شخصياتها التي بلغت نحو ثلاثة وستين شخصية بريشة سيف وانلي.
وكانت "الأهرام" قد نشرت رواية "أولاد حارتنا" سنة 1959 مصحوبة برسومات للفنان الكبير الحسين فوزي.
ولما كانت جائزة نوبل تعلن في الخميس الثاني من شهر أكتوبر من كل عام، فإن إعلان فوز نجيب محفوظ بها تصادف مع يوم لقاء "الحرافيش" الأسبوعي في منزل عادل كامل، ما أدي لأول مرة إلي تأخر نجيب محفوظ ربع ساعة عن موعده. ووجد الشلة في الانتظار للتهنئة: صاحب البيت عادل كامل والمخرج توفيق صالح والفنان بهجت عثمان وأحمد مظهر الذي استأذن مبكرا لارتباطه بموعد تصوير، ولم يحضر يومها صبري شبانه.
وكانت الشلة التي تأسست تقريبًا عام 1936 تضم من البداية تلك الأسماء وآخرين مثل زكي مخلوف وأمين الذهبي وثابت أمين وعادل مدكور ومحمد عفيفي وصلاح جاهين. ولا تجلس الشلة في أي مقهي إنما في بيوت الأعضاء وبدأت ببيت ثابت أمين ثم انتقلت إلي بيت محمد عفيفي ثم بعد رحيله انتقلت إلي بيت أحمد مظهر وأخيرا عادل كامل. ويرى أكثر من "حرفوش" أنه وجد نفسه في روايات محفوظ خصوصا "ثرثرة فوق النيل" و"قشتمر". وقال لي عادل كامل إن نجيب محفوظ في تلك الجلسة أبدي دهشته لحصوله علي الجائزة، وقال إنه لم يسع إليها، ولم يسمع أن أحدا قد رشحه لها، وحكي لهم كيف أمضي ذلك اليوم الطويل.
ولكن في الحقيقة كانت هناك ارهاصات وإشارات وصلت إلي نجيب محفوظ عن ترشيح البعض له، سواء كأمنيات وتنبؤات مثل ترشيح طه حسين له ومن بعده لويس عوض وآخرون، أو تسريبات مثلما كشف عنه عيد عبدالحليم في كتابه " نجيب محفوظ .. رسائله بين فلسفة الوجود ودراما الشخصية" (الدار المصرية اللبنانية ديسمبر 2006). ونشر عبد الحليم خطابا من رئيس قسم الدراسات العربية بجامعة ليدز البريطانية الدكتور أ. شيفتيل يبلغ محفوظ بأنه رشحه للجائزة هذا العام (1988) ورد محفوظ علي الرجل بخطاب شكر من أن تقديره الأدبي هذا لا يقل عن الجائزة بحال.
في المرحلة الأخيرة من "الحرافيش" كان المخرج توفيق صالح الأقرب إلى نجيب محفوظ ، جمعهما مرض السكر رفيقهما المشترك فيتشاوران في نوعيات الأكل والعلاج، ومضت الرفقة إلى اللحد، فقد حصلا معًا على قطعتي أرض في طريق الفيوم وشيدا عليهما مقبرتين متجاورتين. وقد ذكرت في مقال لي في مجلة "الوسط" اللندنية في ديسمبر سنة 2000 بمناسبة بلوغه عامه التسعين، كتبت: "أمد الله في عمر محفوظ حتى يعمر مثل أمه التي تجاوزت المائة. وإذا سألت محفوظ عن هذا فسيقول إن الأعمار بيد الله، وهو مؤمن بذلك. إذ بني مقبرة في طريق الفيوم الصحراوي وعلى شاهدها: "كل من عليها فان".. واتصل بي الأديب يوسف القعيد الوثيق الصلة والمحبة ب نجيب محفوظ بعد المقال ليقول لي: لقد فسرت لنا المشوار الغامض له مع توفيق صالح.. لم نكن نعرف..
وشكلت الصداقة ركنا أساسيا في حياة نجيب محفوظ منذ طفولته وشبابه، دائمًا له "شلة" حتى تكونت الأشهر "الحرافيش" والتي تلتقي مساء الخميس وبجوارها عاشت مجموعات أخرى في المقاهي، وكانت تلك تستحوذ على نهار الجمعة، وبدأت في كازينو صفية حلمي في ميدان الأوبرا ثم مقهى ريش وأخيرًا كازينو قصر النيل. ثم انفجرت اللقاءات بعد نوبل إلى لقاءات يومية، ما عدا السبت المخصص للأسرة.. وبعد رحيله لم تتمكن شلة واحدة من الصمود، لأن نجيب محفوظ كان النواة التي لا يمكن أن تعيش من دونها خلية في الجسد أو في الحياة.
والآن تنهار التوقعات من إمكانية فوز أديب عربي آخر بالجائزة، وبتنا خلال العقود الماضية نتحدث كما كنا نفعل قبل الفوز بها، من أن أديبا عربيا لن يفوز بها مرة ثانية. ليس لعدم وجود أدباء عرب يستحقون وإنما بسبب عنصرية الغرب الذي تغذيه الدعاية الصهيونية. وكان نجيب محفوظ في مقدمة الدفاعات العربية ضد التجاهل القديم، وقال أكثر من أديب عربي إنهم (مؤسسة جائزة نوبل) يتجاهلوننا بالرغم من وجود روائي عربي مثل نجيب محفوظ . وعندما فاز الأديب الكولومبي الرائع جارسيا ماركيز بالجائزة عام 1982 قال الروائي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي: هل الكاتب الكولومبي أهم من محفوظ؟..
ولم يكن رأي محفوظ في الجائزة بعيدا عن آراء الأدباء العرب، وقال لي في حوار نشرته في جريدة الرياض السعودية قبل الجائزة بعامين "إنهم يقدمون جائزة نوبل حتى الآن لمن يكتب لهم ما يريدونه لغة وفكرا، إنما فوزه تكريم لإفريقيا" وكان الحوار حول فوز الكاتب النيجيري وول سونيكا بالجائزة في ذلك العام (1986). وكان محفوظ يعتقد أن الأقرب عربيا للفوز بالجائزة هو الشاعر أدونيس.
بعد فوزه بنوبل بثلاثة أيام فقط، ذهبت مع الأستاذين مصطفي نبيل ويوسف القعيد لاصطحاب نجيب محفوظ من منزله إلي دار الهلال، وأقمنا له ندوة تصدرت عددا تاريخيا من "المصور" عن الرجل والجائزة. وكنت هناك في احتفال الرئاسة بمنح محفوظ قلادة النيل في قصر العروبة مطلع شهر نوفمبر 88 والذي حضره أيضا أدباء عرب..
بالفعل سعد كثير من المبدعين العرب بالجائزة ولفوز محفوظ بالتحديد، لأنه رجل بلا خصومات، ولا أقول بلا معارك، لأنه خاض الكثير منها طوال حياته. وتحدث كثيرون من الكتاب العرب عن جدارة محفوظ، وكتب الروائي السوداني الطيب صالح إن نجيب محفوظ كسر أخيرا الحاجز السميك من عدم الاكتراث والإهمال اللذين عومل بهما الأدب العربي من جانب القائمين على جائزة نوبل.. وفيما بعد في ربيع العام 1990 حاورت الطيب بعدما تردد أنه قال لصحيفة "القدس" الصادرة في لندن إن نجيب محفوظ غير مهم وإنه غير معني بقراءة أعماله. وأكد لي الطيب إنه لم يجر حوارا مع الصحيفة و"هذا كلام فارغ وكذب ولم يحدث إطلاقا" و" لم أكن أتصور كاتبا آخر يمكن أن ينال هذه الجائزة وبما أنها منحت لعربي فهذا العربي كان يستحقها".
ووسط هذه الأجواء من الفرح وجدت نفسي على مقعد في طائرة خاصة في الأسبوع الأول من ديسمبر البارد في الطريق إلى استكهولم لحضور حفل استلام الجائزة..
(الأهرام)