النهايات المعروفة
حركت تجارب الحراك العربى مياهًا راكدة فى بلاد كثيرة، وأكدت أن الشعوب مازالت رقمًا حاسمًا فى أى معادلة حكم، إلا أن تكرار بعض الظواهر السلبية، خاصة فى لبنان وبصورة مختلفة فى الجزائر، يضع علامات استفهام على مستقبل هذه التجارب ومدى قدرتها على الوصول إلى بر الأمان وبناء دولة قانون ونظم ديمقراطية.
ولعل الأزمة الواضحة هى حالة المزايدات والانقسام الداخلى أو احتكار أطراف للثورة وإقصاء آخرين، واعتبار كل من يخالفهم هو خائن أو بائع للثورة، وتحويل الحراك إلى عنصر طرد وليس عنصر جذب للتنوع الفكرى والسياسى. ولعل ما جرى فى ساحة الاعتصام فى بيروت منذ عدة أيام دليل على تلك الأزمة. فقد قام بعض المعتصمين بحرق خيمة اعتصام ثانية، لأنه طرحت فيها آراء سياسية لم تعجبهم واعتبروها مهادنة تجاه إسرائيل، رغم أن المطروح على لبنان ودول المنطقة ليس تحرير فلسطين ولا المتاجرة بالقضية الفلسطينية من أجل قهر الشعوب كما يفعل النظام السورى وحزب الله، إنما تغيير النظام الطائفى وبناء دولة القانون، وبدونهما لن تنجح أى دولة فى مواجهة سياسة الاحتلال الإسرائيلى.
نوع آخر من الانقسام تكرر فى حراكى لبنان والجزائر، وتركز حول اتهام قُوى داخل الحراك لأخرى أنها قدمت تنازلات للسلطة وباعت الثورة لمجرد أنها قبلت بالتفاوض مع النظام، فى حين نجد أن الأعداء والدول التى تتحارب تجلس فى النهاية على مائدة المفاوضات، فما بالنا بأبناء الوطن الواحد!.
انقسام «أهل الحراك» وعجزهم عن تقديم قيادة تتقدم الصفوف، وتصور بعض قادتهم كما فى الجزائر أن النظام سيسقط فقط عبر احتجاجات الشارع، أو أن القطيعة مع النظام القديم تكون أساسًا بتنحى رموزه، وليس تغييرًا تدريجيًّا للمنظومة السياسية التى أفرزتهم، أو أن الطائفية فى لبنان سيتم القضاء عليها «بكبسة زر» وعبر الاعتصامات الثورية فى وسط بيروت.
أصوات الشارع ملهمة، ولولاها لما سقط مبارك وبن على ومحمد مرسى والبشير، ولكنها غير كافية لإحداث التغيير المنشود، فهى لحظة تشبه من رفع قدمه ليتقدم خطوة، ولكنه لم يلامس الأرض بعد، وقد لا يلامسها، وقد تكون خطوة للخلف، لأن الخطوة إلى الأمام ستعنى امتلاك قوى الحراك مشروعًا بديلًا ينقل البلاد نحو نظام جديد ودولة قانون ديمقراطية عادلة. إن التحدى الذى تواجهه الانتفاضات العربية هو فى قدرتها على تقديم مشروع سياسى بديل للنظم القائمة، وهذا سيعنى عدم السقوط فى فخ المزايدات والانقسامات الداخلية، وأيضا الوعى بأن أهداف الشعوب لا تتحقق بالضربة القاضية إنما هى كلها معارك بالنقاط، وأن فرص نجاح أى حراك تكمن فى فتح طريق أمام التغيير التدريجى الإصلاحى دون السقوط فى مخاطر الفوضى أو الاقتتال الأهلى.