مديحة الصفتي .. "استاذة " خارج السرب
نادرون هم الاساتذة الذين يتركون في قلوب تلامذتهم وفي عقول الاجيال علامات لاتمحى .
وقد كانت استاذتي الدكتورة الجليلة مديحة الصفتي واحدة من هؤلاء الاساتذة الذين لايعبرون ببساطة في حياة تلاميذهم ولكن يتركون بصمتهم وحكمتهم لترافقهم في مشوار حياتهم انسانياً وعلمياً و عملياً .
كانت استاذة علم الاجتماع الشهيرة في الجامعة الامريكية اسماً مرموقاً عندما حضرت لها لاول مرة " كورس" في الاجتماع عام ١٩٨١ ، كانت سمعتها كاستاذة تسبقها
في ارجاء الجامعة ، كانت محاضراتها مدهشة ومثار اعجاب واقبال تلاميذها وكان الطلاب يسألون بعضهم البعض "بتاخد اجتماع مع الدكتورة مديحة ؟" ، فيجيبون بفخر " نحن تلاميذ د. الصفتي" ، وكانت الاستاذة حالة علمية وانسانية استثنائية في التعليم الجامعي في ذلك الزمان ، لم اكن اعرف سر حب طلابها لها وتعلقهم بها إلا عندما حضرت محاضراتها وعرفت انها نموذج لمعلمة الاجيال التي سبقت عصرها ، كانت كل محاضرة ساحة للنقاش الحر وللتعبير عن الرأي بلا قيود او حدود ، علمت طلابها حرية البحث والتفكير ، وعلمتهم انه لا سقف للابداع والمبادرة وان المجتمعات لا تتغير ولا تتطور الا بتحطيم الاصنام وارث الماضي الذي تجاوزه العصر .
كان من الصعب ان تفوت محاضرة لمديحة الصفتي ،.. وكان من المستحيل ان تحضر لها " كورس" والا تصبح بعده صديقاً شخصيا لها .
وكانت "الاستاذة " انسانة اولا مع طلابها داخل اسوار الجامعة وخارجها ، قلبها الكبير يسع الجميع ، ولم ينقطع اهتمامها بي في كل مراحل حياتي ، لم نلتق كثيرا ولكن مكالمة هاتفية من الاستاذة بين الحين والاخر تكفي لكي اشعر بحرصها ورعايتها وبنصائحها الذكية الفارقة في حياتي ، ولا انسى كلماتها لي عام ٢٠١١ " انا كنت عارفة يااحمد انك هاتدخل في السياسة .. بس خد بالك على نفسك " .
كانت مديحة الصفتي تغرد دائما خارج السرب ، وعندما حضرت لابنتي فاطمه حفلا بالسفارة الفرنسية العام الماضي واستمعت لصوتها لاول مرة وعرفت انها تشق طريقها في عالم الغناء الاوبرالي ، كانت شديدة التأثر والسعادة بنجاح فاطمة ، وفرحت بأننا شجعناها منذ البداية ودعمنا اختيارها للغناء ايضا "خارج السرب" .
وعندما كان لي شرف القاء كلمة في حفل تكريمها بالجامعة الذي دعتني اليه العام الماضي نجلتها د. نجلاء رزق ، استاذة الاقتصاد بالجامعة الامريكية، لم افاجئ بالعدد الكبير الذي حضر التكريم ، تركوا اعمالهم وحرصوا على حضور تكريم الاستاذة التي اثرت في حياة كل واحد منهم . وفي كلمتي تحدثت عما تعلمته شخصياً من مديحة الصفتي ، اخلاق الحوار واحترام الخلاف وحرية التفكير بلا خطوط حمراء وان تتمسك بمبادئك في اصعب الظروف والا تخشى السباحة ضد الموج العالي .
وفي حفل تكريمها ، لم اعرف انه سيكون اللقاء الاخير ، نظرت يومها الى وجوه الحاضرين فشعرت اني لست وحدي الذي احبها .
واليوم بعد رحيلها .. انا لا انعي مديحة الصفتي فلا الكلمات ولا الدموع تكفي لرثائها . علمها وريادتها وانسانيتها وشخصيتها الآسرة باقية في القلوب .
ان امثال مديحة الصفتي لايموتون .