من حرب «داعش» إلى حرب ترامب؟!

قبل أسبوع كان قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أن الذين يهتفون «الموت لأمريكا» لا يمكن السماح لهم بامتلاك القنابل الذرية؛ ومن ثم كان قراره بالانسحاب من «صفقة إيران النووية» التى نتجت عن مفاوضات ٥+١ الشهيرة والتى تقوم على وقف إيران لبرنامجها النووى مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الواقعة على طهران من قبل دول العالم. أسباب القرار الأمريكى فيها ما هو د اخلى وما هو خارجى، وسواء كان الأمر من هذا أو ذاك، فإن موقف ترامب ذهب برعشة فى أعصاب العالم. ما هو داخلى معروف فقد كان ذلك القرار هو موقف ترامب الذى اتخذه أثناء الحملة الانتخابية والرجل يريد أن يعرف عنه أنه يفى بوعوده؛ وأكثر من ذلك، وربما قبله أيضا أن ساكن البيت الأبيض يريد محو كل البصمات والآثار التى تركها باراك أوباما من قبل فى السياستين الداخلية (قانون الرعاية الصحية) والخارجية (صفقة إيران النووية). ما هو خارجى فيه أن إيران استخدمت فترة الهدنة التى نجمت عن اتفاقها النووى فى تطوير صواريخها إلى الدرجة التى جعلتها قادرة على الوصول إلى حلفاء الولايات المتحدة والقوات الأمريكية فى المنطقة.

وأكثر من هذا أن طهران توسعت إقليميا حتى بات لها نفوذ سياسى وتواجد عسكرى وتحالفات محلية فاعلة بالسياسة والسلاح فى أربع دول عربية: الحشد الشعبى وقطاع واسع من الشيعة فى العراق، الحكومة السورية والعلويون فى سوريا، وحزب الله والشيعة فى لبنان، والحوثيين فى اليمن. بصمات إيران أيضا ظاهرة فى علاقات مع جماعات إرهابية ممتدة من أفغانستان وباكستان شرق حتى القرن الأفريقى غربا.

 

ولكن ما أقلق أكثر الولايات المتحدة أن إيران رغم كل التعهدات بوقف برنامجها النووى قد استمرت بالفعل فى هذا البرنامج. المصدر هنا- للعجب- كان إسرائيل وحدها التى أعلنت أن لديها الأدلة على ذلك من خلال خطاب لنتنياهو تصدرته لافتة تقول إن «إيران تكذب». المؤسسات الدولية كوكالة الطاقة النووية وحتى المخابرات الأمريكية ووزير الخارجية الأمريكى «بومبيو» ذاته أعلنت أنه لا يوجد دليل على استئناف إيران لبرنامجها النووى. وإذا كان أمر الاتهام الإسرائيلى يحتاج إلى خبراء ينظرون فى مصداقية المعلومات الإسرائيلية؛ فإنه من الناحية الإستراتيجية البحتة فإن التوسع الإيرانى بالسياسة والسلاح فى «كوريدور» واسع ممتد من الحدود الإيرانية إلى الحدود السورية واللبنانية الإسرائيلية ويمكن متابعته من تزايد التوتر والاشتباكات بين إسرائيل وبعثات عسكرية إيرانية أو نشاط حزب الله فى سوريا. المسألة هنا أن القرار الأمريكى سوف يعنى اصطفافا أمريكيا يلوح بإطلاق يد إسرائيل بتأييد أمريكى فى الساحة السورية، وربما أكثر من ذلك ضرب البرنامج النووى الإيرانى ذاته.

ولكن هناك وجهة نظر أخرى ترى فى القرار الأمريكى عملية تصعيد تعتمد سياسة «حافة الهاوية» من أجل التوصل إلى اتفاق فى النهاية أكثر شمولا وتغطية قضايا عجزت الصفقة عن التصدى لها. أصحاب هذا الرأى يأخذون العبرة مما فعله ترامب فيما يتعلق بأسلحة كوريا الشمالية النووية والتقليدية، خاصة تلك المتعلقة بالصواريخ البالستية. ففى الحالة الكورية بدأ ترامب بالتصعيد معلنا سياسة «الغضب والنار»، وطرد البالغين والراشدين فى إدارته (تيلرسون فى الخارجية وماكماستر فى الأمن القومى) لكى يحل محلهم من يشاركونه الرؤيا مثل بومبيو فى الخارجية، وبولتون فى الأمن القومى. ومع استخدام حاذق للعلاقات المعقدة والمركبة مع الصين وكوريا الجنوبية واليابان حصل ترامب على تهد من كيم جيم أون قائد كوريا الشمالية على نزع السلاح النووى الكورى الشمالى، والاستعداد لإنهاء الحرب بين الكوريتين والمستمرة نظريا منذ عام ١٩٥٣ وعقد معاهدة سلام. وبعد التصعيد الكبير فى اتجاه الحرب، بات هناك فى العالم من يطالبون بمنح ترامب جائزة نوبل للسلام!.

هل الحالة الإيرانية تشبه تلك الكورية الشمالية ليست بالضرورة كذلك؛ فكوريا الشمالية ظلت دوما دولة معزولة عن بقية الدنيا فيما عدا الصين التى هى الأخرى لا ترحب بأن تكون لها جارة نووية على مرمى حجر من الأراضى الصينية. كما أن الصين التى أخذت عهدا على نفسها أن تكون قوة اقتصادية كبرى فى العالم لا توجد لديها دوافع لكى تعطل ذلك بحرب لا ناقة لها فيها ولا جمل. إيران على العكس ليست معزولة، بل إن علاقاتها نتيجة القرار الأمريكى سوف تتعزز مع أوروبا التى أعلنت أنها مستمرة فى الصفقة، كما أنها سوف تتعزز مع الصين التى تأخذ بترولها، ومع روسيا التى تتحالف معها فى سوريا.

وباختصار فإن إيران لديها أوراق أخرى فى المنطقة يمكن استخدامها، أولاها أنها قطعت بالفعل أشواطا فى إنتاج السلاح النووى وسوف يرجع تقديرها فى استئنافه إلى المدى الذى سوف يذهب إليه الأوروبيون وروسيا والصين فى الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع إيران. وثانيتها أن إيران لديها أوراق كما ذكرنا موجودة بالفعل وعلى الأرض فى أكثر من دولة مجاورة يمكنها استخدامها لتحقيق عزلة الولايات المتحدة فى المنطقة، خاصة أن ترامب لم يراع حلفاءه العرب عندما نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وعندما تحدث كاذبا ومستهترا عن الدول العربية وأنه لولا الحماية الأمريكية لما استمرت أسبوعا واحدا. وثالثتها أن إسرائيل فى حد ذاتها تعد ورقة إيرانية تستخدمها لجذب العواطف فى العالم الإسلامى وتحقيق التوسع الإمبراطورى الإيرانى تحت راية القضية الفلسطينية. ومع ذلك فإن السياسة الإيرانية عليها قيود إذا أغفلتها السياسة الإيرانية سوف يكون ثمنها فادحا، فإيران فى الأول والآخر مجتمع مركب من طوائف وعقائد والشواهد تؤكد أن واحدا من أهداف الحركة العنيفة فى الخارج هو تحقيق تماسك داخلى مرهق. النظام السياسى الإيرانى باستخدامه للدين بما ترتب عليه من فساد بعد أربعة عقود تقريبا من حكم الملالى لم يقسم إيران بين معتدلين ومتطرفين فقط، وإنما بين الشعب والحكم فى استقطاب تعززه أوضاع اقتصادية متدهورة مظاهرها تضخم عنيف، وتدهور فى قيمة العملة مثير للذعر، ومسيرة للتنمية تسير بسرعة السلحفاة.

الحالة هكذا فى الشرق الأوسط أكثر تعقيدا وتركيبا مما هو الحال فى شرق آسيا، كما أنها أكثر التهابا، خاصة بعد حرب ضروس جرت ولا تزال جارية ضد تنظيمات إرهابية من طراز «داعش» وقبلها كان الزلزال الذى أثاره الربيع العربى المزعوم. النتيجة هى أنه فى إقليم مرهق من الزلازل والأعاصير السياسية المتتالية فإن مناعته فى مواجهة الحمق قليلة. تعالوا ننتظر ونرَ ما الذى سوف يحدث فى الشرق الأوسط؟!.

(عن المصي اليوم)

التعليقات