رواد تكنولوجيا المستقبل

مصر بالنسبة لأبنائها همٌّ بالليل وهمٌّ بالنهار، وعندما يكونون فى خارجها فإن الأرق يصير مضاعفا، خاصة أنه لا توجد ندرة فيما يقلق، ويكفى أن أحداث الإرهاب المتتابعة وسقوط الضحايا من بواسل القوات المسلحة والشرطة والمدنيين يخلق أنهارا من الحزن. ولا ينفع كثيرا إدراك أن العالم كله يخوض نفس المعركة التى نخوضها، ولا يقلل من الانزعاج أن دولا كبرى وعظمى لم تصل إلى حل بعد للمعضلة الإرهابية، كما أنه لا يفيد بشكل كبير معرفة أن مصر مرّت بما هو أخطر وأكثر ألما وعبرته مرفوعة الرأس. وربما كان ما يدفع ضوءا إلى الصورة أن هناك إنجازات مصرية، وكلها لم تحدث فى مجال كرة القدم، وإنما على اتساع الجغرافيا من النهر إلى البحر. ومن بعيد، فى بوسطن الأمريكية، فإن حضور السيد رئيس الجمهورية لمؤتمر رواد تكنولوجيا المستقبل كان فنارة كبيرة هادية للطريق الذى نقطعه، ونريد الوصول منه إلى شاطئ لم نصل له من قبل. المؤتمر والحضور كان فيه تعبير عما هو أكثر من العاصمة الإدارية والأنفاق والطرق والمشروعات العملاقة الأخرى والتى أكثرها خرسانة وحديد وصلب. هنا فإن الرئيس أولا يمس القاعدة الكبيرة والوثابة من الشباب المصرى الجديد الذى عرف أن العالم المعاصر يمر بثورة كبيرة فى العلوم والتكنولوجيا ولا يوجد غير الشباب يجعلنا نلحق بها، وهو فى هذا يستكمل حلقات سبقت من التواصل مع هذه الشريحة الاجتماعية من خلال مؤتمرات الشباب والبرامج الرئاسية. وهو ثانيا يستأنف اتصالنا، وربما على نطاق أوسع، بنهضة تكنولوجية بدأت قبل عقد من الزمان عبر سلسلة القرى الذكية فى مصر، ويأخذها إلى ما هو أفضل وأرقى.

وثالثا، وربما كان الأكثر أهمية من كل ما سبق، أن المؤتمر يبعث الأمل فى بث أهمية العلم والعلوم فى المجتمع المصرى. هذه نقطة تستحق بعضا من الإفاضة والتفصيل لأن المجتمع المصرى كله بات أسيرا لموجات متتابعة من القولبة الغيبية، والشعوذة الاجتماعية، التى لم تعد استيرادا من الأفكار «الإخوانية» والسلفية، وإنما باتت جزءا من النسيج الاجتماعى نجده فى مباريات كرة القدم، كما نجده فى حفلات الزفاف. هناك تقريبا الآن فى كل تليفون جوال فى مصر، وعلى كافة شبكات التواصل الاجتماعى، هجوما منظما يحدد حركة الإنسان اليومية وما يفعله عند دخول المركبة، أو الولوج إلى حجرة، أو السعى إلى عمل؛ وماذا يفعل ساعة اليقظة وماذا يقول قبل المنام، وما سوف يصلى به ساعة الفرح، وما سوف يهتف به وقت الحزن. والمسألة كلها ليست فردية، فما يقال، وما يجرى التصرف به يجرى إعادة تركيبه فى عادات اجتماعية كلها ليس لها علاقة بالعمل، ولا بالإبداع أو الابتكار، ولا بالتفكير فى حل مشكلات الحى أو الوطن.

البشرية كلها لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه من تقدم تكنولوجى وعلمى بات لا يخصها فقط وإنما يخص الكون كله لولا مرورها بثورة «مفهومية» تقوم على المنطق، والتجريب والتجارب، وربط المسببات بالنتائج، والبحث فى أصل الكون وتركيبات الذرة والخلية والجينات. لو أن البشرية تُركت لحالها قبل خمسمائة عام لكان الاعتقاد قد ظل باقيا فى العفاريت والجان وبساط الريح وانتظار المعجزات الكبرى التى تهدى البشر من اعتقاد إلى آخر، ولكنها لا تنقلهم من حال إلى حال. ولكن البشرية لم تترك لحالها وإنما طرقها العلم والمعرفة التى تراكمت قرنا بعد آخر حتى وصلت الإنسانية لما هى عليه فيما عدا هؤلاء الذين ظلت الميتافيزيقيات والخرافات تحكمهم، وعندما تمردوا انطلقوا فى طريق المؤامرات يضعون عليها همومهم ونكساتهم ونكباتهم.

العلم والعلوم والتكنولوجيا هى المفاتيح الأولى ليس فقط فيما يقودون إليه من تطبيقات تجعل الحياة مختلفة جذريا عما كانت عليه، وإنما أيضا للنهضة والتقدم. وعندما يقوم رئيس الجمهورية بالافتتاح والحضور فى مؤتمر رواد تكنولوجيا المستقبل فإنه يستأنف أمرا كان الرئيس جمال عبد الناصر قد بدأه عندما أقام تقليد «عيد العلم» للاحتفال بالمتفوقين والنابغين والعلماء. ولكن «النكسة» داست على التقليد كما داست على أمور أخرى كان فى طليعتها التفكير العلمى وإرسال البعثات العلمية إلى الخارج؛ ورغم أن حرب أكتوبر قامت فى التخطيط والتنفيذ على العلم العسكرى والمادى فإن إنجازها ما لبث أن صار من الأمور الغيبية وهو ما بات منطبقا على كل أمورنا الأخرى. ولكن أخطر ما ولدته النكسة ومن بعدها إطلاق الإخوان والجماعات السلفية على المجتمع أن التفكير المصرى تعرض لخلل بالغ ليس فقط فى تركيبته المنطقية، وإنما أن التعبير عن الخلل صار جزءا من الخطاب العام ويقال بفخر شديد على شاشات التليفزيون، وشبكات الإنترنت، ومقالات الصحف.

ما تحتاجه مصر، بالإضافة إلى كل ما تفعله على الأرض، ثورة علمية لا تأخذ الناس إلى ميدان التحرير، وإنما لكى تعمل مؤسساتنا التعليمية على أساس من العلم والمعرفة، وتبشر فيها جامعاتنا بالمنهج العلمى والتفكير المنطقى. إعلامنا هو الآخر لابد فيه من منهج وتبشير ومحتوى يعطى العقل حقه فى المجال العام. الدرس نأخذه من الدول التى سبقتنا حيث نجد حشدا هائلا ليس فقط فى مراجعة «رحيق الكتب» وإنما يكون هناك ما هو أكثر فى التاريخ والجغرافيا والعلوم الأساسية وكيف كانت وأين أصبحت. برامج قنوات «ديسكفري» العديدة تخلق المجال للتفكير العلمى فى تطور الحضارات، ومن يتابع فإنه سوف يجد أن كل الحضارات العالمية، وفى المقدمة منها الحضارة المصرية القديمة، على مائدة التشريح والفحص. ولعلى هنا أشارك الزميل العزيز محمد أمين فى انزعاجه مما يحدث فى الإعلام المصرى الذى انتقلت ملكيته، ولكن محتواه فى الأغلب والأعم ظل على حاله، بل بات أكثر إغراقا فيما هو مثير وتافه.

هذه المرة، وحتى لا نكرر مرة أخرى تجربة «عيد العلم» الموؤدة، فإن الخطوة الأولى فى مقاومة الإرهاب، وتجديد الفكر الدينى، وإعطاء الفرصة للشباب لاقتحام مجالات جديدة للثورة والثروة معا، هى نشر العلم والعلوم والتفكير العلمى بين الصغار والكبار. ما يحتاجه هؤلاء فى مرحلة الانتقال من الفكرة إلى النموذج إلى التطبيق الأولى نوع من الرعاية والاستثمار عادة لا تكلف كثيرا؛ وما يكلف حقا هو إنتاج ما يصلح للتناول والتبادل فى السوق ذاتها وهذه مهمة «الرأسمالى» الذى يمول ويسوق المنتج. هذه الحلقات فى مجموعها كانت هى التى رعت آخر الثورات التكنولوجية وانتقل فيها الشباب من «الجراج» إلى سوق بمنتجات بدأت بالكمبيوتر وانتهت بالسيارات بلا قائد. وما بين هذا وذاك هناك عشرات، وأحيانا مئات، الحلقات الوسيطة التى تخلق البرامج والتطبيقات التى توفر السعة والسرعة وتحول منتجات بسيطة إلى منتجات كبرى مركبة ومعقدة. هذه الحلقة المهمة «الرسملة» يمكن أن يتحرك فيها القطاع الخاص، كما يمكن أن يتحرك فيها المال العام عن طريق شركة تعمل كما يعمل القطاع الخاص أو عن طريق البنوك. كل ما نحتاجه هو أشكال مختلفة من المرونة، فالمهم هو أن لدينا «رواد تكنولوجيا المستقبل»، وهناك بالفعل شركات فى مراحل بداية المنتج أو التطبيقات المفيدة.

كل ما سبق يشير إلى تنمية الإلكترونيات، ولكن رواد المستقبل يمكنهم الدخول فى مجالات مهمة لمصر من أول استغلال للطاقة الضوئية إلى تحلية المياه إلى المجالات الزراعية والطبية. ميزة الثورة التكنولوجية الحالية أنها ليس لها سقف ولا نهاية لأنها تقوم على المعرفة والفكر الإنسانى.

التعليقات