القاهرة
منذ سنوات كتبت مقالا فى صحيفة الأهرام الغراء بعنوان «القاهرة.. هذه القرية الكبيرة»، ولم يكن الوصف كله من عندياتى وإنما كان مستوحى من مقال آخر قرأته معلقا بين الهواء والهواء فى مكان ما بين السماء والعالم فى مجلة شركة الطيران السويسرية. لم يكن ذلك المقال رفيقا بالقاهرة شكلا وموضوعا ورائحة رغم أنه جاء فى مجلة «سياحية» هدفها الترويج للمناطق التى تسافر إليها الشركة. كان مقالى فيه الكثير من الأسى الذى تجاوب معه قراء كانت لديهم ذات المشاعر الحزينة عن مدينة هى أولا عاصمتنا وفى ذلك كثير من السياسة، وثانيا أنها المكان الذى عشنا فيه أحلام الصبا وزهرة الشباب، وفى ذلك كثير من التاريخ. كانت السمة العامة بينى وبين القراء هى اليأس من الحالة التى وصلت إليها القاهرة، ومع ذلك فقد ثارت ثائرتى عندما ظهرت الأنباء عن «العاصمة الجديدة»، وكان ذلك قبل أن يضاف لها على سبيل التحفظ كلمة «الإدارية» التى ظهرت كما لو كانت اعتداء عقاريا على عاصمة تاريخية.
كتبت عن ذلك مستنكرا فى حينه خوفا من عواصم «الملح» التى بنيناها من قبل (السادات مثالا)، ولكن المعارف بعد ذلك تراكمت، وبدا أن الفكر التنموى المصرى نجح فى خلق منظومة فكرية متكاملة جعلت من الجديد جناحا إداريا ضروريا لعاصمة تراثية متعددة الحضارات. وعندما شرفنى بالدعوة المهندس إبراهيم محلب للمشاركة فى اجتماعات اللجنة القومية للقاهرة التراثية ظهر أنه لا يوجد فقط ضوء فى نهاية نفق القاهرة الحالك الظلام، وإنما شمس ساطعة ربما آن أوان إشراقها. وكما يحدث فى كل الأفكار العظيمة فإنها تبدأ بنبتة صغيرة لا تلبث أن تكبر وتتحول إلى نظرية متكاملة، فكانت البداية إعادة الاعتبار لمنطقة «القاهرة الخديوية»، فإذا الأمر كله يصير إعادة الحياة إلى القاهرة «التراثية» بكل مراحلها الفرعونية والقبطية والإسلامية والفاطمية والأيوبية والعثمانية والحديثة. ولم تعد المسألة مبانى وشوارع وأحياء تاريخية، ونظما معمارية تنطق بمسرة عظمى للمصريين على مدى زمن طويل، وإنما صارت حدائق تنطق أوراق أشجارها بما شهدت من غرس ومن تدمير، وجبالا وصحارى، ونهرا وجُزُرا. وسرعان ما باتت القاهرة تضج بالبشر الذين ساروا فى شوارعها، وبينما ترى خوفو فوق قمة الهرم، فإنك تجد نجيب محفوظ فى شوارع الجمالية.
وليس صحيحا أن الشيطان يكمن فى التفاصيل دائما، وإنما الجمال أيضا يوجد وسط التعقيدات الكثيرة لعاصمة معقدة. وعندما يبدأ المحافظ المهندس عاطف عبدالحميد دقات الاحتفال الخاص بمرور ١٥٠ عاما على إنشاء القاهرة الإسماعيلية (أو الخديوية، ولكن نسبة إلى إسماعيل باشا الذى يبدو أن الاعتبار سوف يعود له أخيرا!)، فإنه ربما يأذن بإشهار بداية مشروع يضع القاهرة فى المكان الذى تستحقه بين العواصم العالمية. ولكن مثل ذلك لا يحدث فقط بمشروع ناجح، أو حتى بعدة مشاريع ناجحة، فالقضية الجوهرية هى أن يعتقد القاهريون أنهم مواطنون فى عاصمة عالمية. ولا يحدث ذلك إلا من خلال التعليم، واقتراحى المحدد هو أن تكون هناك مادة دراسية يأخذها التلاميذ من بداية المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية فى جميع أنواع المدارس العامة والخاصة. القضية ليست فقط تاريخ المدينة من أول ما كانت «منف» حتى باتت «القاهرة» بتنويعاتها المختلفة (الفسطاط والقطائع والعسكر وهليوبوليس وغيرها)، ولا حتى جغرافيتها التى تمددت فى الجهات الأربع، وإنما أيضا أعلامها علماء وأدباء وشعراء، ومع كل ذلك متاحف وجامعات وصناعات.
الفكرة بالطبع يمكن تطبيقها فى جميع محافظات مصر بحيث نخلق رابطة وطنية بالمكان الذى يتنفس ليس فقط بالماضى، وإنما أيضا بالمستقبل. فهنا توجد الهوية، كما توجد الفرصة بقدر ما يجرى النهر وينمو النبات، وفى المدينة تتعدد الأحياء كما يتعدد البشر. وإذا كان نجيب محفوظ مجد الأزقة (زقاق المدق)، وجمال الغيطانى الحارات (حارة الزعفرانى)، وأسامة أنور عكاشة جعل من «ليالى الحلمية» مسيرة تاريخية ناطقة بمشاعر وأحلام، فإن تلاميذ اليوم سوف تكون لديهم طريقتهم الخاصة فى استيعاب المكان والتحليق به إلى آفاق لم يعرف بها آباؤهم وأجدادهم وتليق بعصر الإنترنت الافتراضى ومركبات الفضاء السائرة فى السماوات السبع. التعليم الذى يخلق علاقة مباشرة مع المكان بجميع أبعاده التاريخية والجغرافية والديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية أيضا.
«الوطنية» لا تحدث فقط بالتمييز بيننا (نحن) والآخر (هُم)، أو بالتعرف على حجم وفداحة التهديدات التى يتعرض لها الوطن من آخرين لديهم طمع، أو حتى بالتحديات المتعلقة بالبقاء سواء كانت كوارث طبيعية أو غزوات أجنبية، الوطنية فى جوهرها معرفة عميقة بالذات واعتزاز بها، وهى التى فى النهاية ليست أناشيد وقصائد ومناسبات جماهيرية، وإنما هى معرفة عميقة بهذه الذات وتجلياتها المادية والروحية. هى علاقة متعددة الأبعاد مع المكان الذى يبوح بأسراره العظمى ليس فقط للمصريين وإنما أيضا لأشقائهم فى المنطقة العربية. أذكر أنه فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى كنت أعمل مستشارا سياسيا فى دولة قطر (لم تكن علاقة قطر مع مصر كما هى عليه الآن من خيانة وعداوة)، وجاء شهر رمضان فكان الاحتفال به فى خيم نصبتها جميع الفنادق فى الدوحة، وكانت أسماء الخيم «قصر الشوق» و«السكرية» و«ليالى الحلمية». كانت الأسماء المصرية تسطع فى قلب العاصمة القطرية متوهجة بفنون وآداب وحضارة بعيدا عن القاهرة وقريبة منها فى نفس الوقت!