مبادئ محمود عمارة الخمسة
شاهدت باستمتاع المقابلة التليفزيونية المهمة التى أجراها الأستاذ عمرو أديب فى برنامجه المتميز «كل يوم» على قناة On Tv مع الدكتور محمود عمارة قبل أسبوع. المتعة جاءت ليس فقط نتيجة مضمون ما قال، وتوافقه مع ما سعيت إليه خلال الأربعين عاما الماضية؛ وإنما لأن التفاعل ما بين «الخبير» ومقدم البرنامج كان مثيرا فى الواقع. فالضيف يبدو «رائقا» وبسيطا، فالقضية بالنسبة له واضحة كل الوضوح، والحكم فيها لا يخرج إلا عن بدائل ساطعة، وما يوجد فى غيرها لا يخلو من عجب. أما المضيف، وهو على درجة كبيرة من المعرفة والثقافة والعلم بالموضوع، فإنه مكبل تماما بكل ما يعوق الحل الذى يطرحه الخبير، ومن ثم فإنه يوالى ضيفه بسلسلة من المعوقات التى تجعل ما يبدو بسيطا معقدا للغاية، وإلا لكان قد تم تبنيه، وربما ما كانت مصر بلدا متخلفا. حقيقة حال الوطن هو البرهان والدليل على أن الخروج من الأوضاع الراهنة ربما يكون مستحيلا، فلا الإنسان يستطيع الخروج من الجاذبية، ولا المصريون بمستطاعهم الخروج من التخلف. الحال يبدو نوعا من القدر المحتوم والقضاء النافذ ربما لأن مثل هذه المناقشات والحوارات دارت دائما فى هذه الدائرة الجهنمية التى لا مخرج ولا خروج عنها بين ما هو ممكن ومتاح وبسيط فى الوصول إلى التقدم، وما هو مستحيل وبعيد بعد السماء السابعة ومعقد فى البقاء فى التخلف.
وبالطبع فإن ذلك ممكن له أن يتكرر فى المستقبل أيضا، وربما لا يكون مقدم البرنامج هو ذات المقدم، ولا كان الضيف هو ذات الضيف. ولكن وحتى لا يضيع الكثير من الوقت، فربما يكون مفيدا أن نلخص ما جرى وقيل حتى يكون الأساس لحوارات تالية تبنى على ما ورد. فما طرحه الدكتور محمود عمارة جرى قوله من قبل مجموعة قليلةـ من بينهم كاتب السطورـ حاولت طوال العقود الأربعة الماضية أن ترسيها فى الخطاب العام وتقوم على مجموعة من المبادئ الأساسية. أولها أن مصر بلد غنى وليس فقيرا كما يبدو أو يظهر فى المؤشرات والأرقام، سواء تلك التى تأتى من الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء أو من أرقام البنك الدولى أو صندوق النقد الدلى أو أمثالهما فى الداخل والخارج من مؤسسات. الدلائل على ذلك معروفة من أول المساحة إلى عدد السكان إلى وجود النهر والبحرين والخليجين، وهلم جرا من أمور استعجب لها عمرو أديب ليس فقط لأنها معلومة، وإنما لأن العلم بها لم يجعل مصر بلدا غنيا. النقطة هنا ذات أهمية فى حد ذاتها، فهى تشير إلى أن مصر قد تكون بلدا غنيا مع تقييم الأصول الرأسمالية التى تمتلكها، ولكن لا يوجد جدال فى أن المصريين فقراء فى العموم أخذا كمؤشر نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى.
هنا يقودنا المبدأ الأول إلى المبدأ الثانى والمتعلق بالمهمة الأساسية لعبور الفجوة بين البلد الغنى والشعب الفقير، فنجد أن منهج إدارة الفقر الذى قامت عليه جهود كل الحكومات المتعاقبة على مصر على مدى القرون السبعة الماضية لم يؤد إلا إلى استدامة الفقر بينما المهمة التى اختارتها شعوب العالم الأخرى هى السعى للتنمية المستدامة التى تقود للتقدم المستدام، والمستدامة والمستدام هنا تعنى «المغذية لذاتها» أى التى لا تنعكس خلفا أو تتراجع. البديل لإدارة الفقر هو إدارة الثروة، والثروة هنا متعددة الأوجه، ففيها ما هو لدينا بالفعل من أنشطة اقتصادية (زراعية وصناعية وخدمية) لكننا لا نستخدمها الاستخدام الأمثل، كما أن فيها ما نعرفه جميعا من قدرات ديمغرافية وجغرافية، أو من بشر وحجر كما يقال، ولكننا لا نكاد نوظف أو نستثمر إلا النادر منها (٧٪ من مساحة مصر، وربما نفس النسبة من قدرات شعبها). ولكن لدينا فوق هذا كله، وهو ليس قليلا، ثلاثة مصادر للثروة لا نهاية لها: الزمان والسليكون والشمس، الأول يوجد فى ماضى مصر وليس كله معروفا، ومستقبلها وهو واعد بالقدر الذى نعمل من أجله، والثانى يوجد فى صحارى مترامية الأطراف، والثالث عبده القدماء أما المحدثون فآمنوا بأنه من آيات الله العظمى.
المبدأ الثالث يدلف بنا فورا إلى الإجابة عن السؤال المرهق: كيف؟ فالثروات لا تنتقل وحدها من حالتها الطبيعية إلى موارد، هنا فإن الدكتور عمارة يقدم لنا الإجابة الطبيعية ولها شقان يدوران حول مفهوم «الاستثمار» الذى هو الطريق الطبيعى لتحقيق تراكم الثروة، ولهذا جانب فنى (جانب فنى لكيف تستخرج الذهب من الصحراء الشرقية على سبيل المثال)، وجانب إدارى يوظف العقل الإنسانى فى تحقيق منظومة البنوك والإدارة لترتيبات التصنيع والنقل والتصدير والاستيراد، وهكذا أمور. الشق الأول أنه بين ١٠٠ مليون مصرى فى الداخل والخارج فإنه يوجد «الخبراء» الذين يستطيعون إدارة هذه العملية، أو عدد ليس قليلا منهم، وهؤلاء يمكنهم أن يكونوا أكثر فائدة إذا ما عملوا بحرية أكبر فى مناخ من اللامركزية وتشجيع الاستثمار وبيئة نظيفة ومنضبطة. والشق الثانى، وإذا ما تعذر الأول، فإننا نفعل ما فعلته دول العالم الأخرى وهو الاستعانة بالخبرة الدولية أى الأجانب.
هنا لا يجب أن يصاب أحد بالفزع، فالواقع هنا أن الأجانب كانوا من علمونا الكثير عن تاريخ مصر، ورغم أن بعضا منهم نهبوا الآثار، فالبعض الآخر كان هو الذى حث الوالى محمد على على إصدار قانون لحماية الآثار المصرية، وهم يشكلون الجانب الأعظم من بعثات الاستكشاف لتاريخ مصر القديم. الأجانب أيضا هم الذى اكتشفوا البترول المصرى قديما وكما نعلم حديثا أيضا، كما أنهم اكتشفوا لنا الذهب كذلك، وهم فى كل الأحوال الذين يشكلون القدر الأعظم من السياحة ذات العملات الصعبة، وهم الذين ينقلون لنا الإدارة الناجحة فى الفنادق المصرية، وحينما فشلنا فى إدارة الاقتصاد المصرى لجأنا إلى «خبراء» الصندوق ليس فقط لكى يكونوا دليلا فى الخروج من المأزق، وإنما أيضا، لكى يرفعوا عنا المسؤولية، ويتحملوا عنا الذنوب فيما نتخذه من قرارات صعبة.
المبدأ الرابع ليس بعيدا عن ذلك الثالث، وهو أن مصر ليست حالة خاصة ومشاكلها ومعضلاتها لم توجد من قبل لدى بلد آخر. بالطبع فإن الدول مثل البشر يمكن أن يكون لها «بصمة» خاصة، أو اتساع لا يتكرر فى حدقة العين، ومع ذلك مثل البشر فإنهم جميعا لا يطيرون، ولهم نظام بيولوجى متماثل، وهلم جرا. وأذكر ذات مرة فى حديث مع الصديق العزيز د. أحمد جلال وزير المالية الأسبق، أنه وقد عمل فى العديد من المؤسسات الاقتصادية الدولية، والبنك الدولى خاصة، كان عليه معالجة الحال فى حوالى ٦٠ دولة، فوجد أنه لا توجد مشكلة مصرية إلا وكان لها ما يماثلها، وتوجد لها حلول، فى بلدان العالم الأخرى. وبصراحة فإن مصر لا يجب أن تسعى إلى إعادة اختراع العجلة مرة أخرى، وإذا كان لا يعجبها أن تأخذ الخبرة من الغرب أو من إسرائيل فإن هناك ما يكفى منها فى الأردن والمغرب والإمارات العربية المتحدة وفيتنام وبوركينا فاسو.
المبدأ الخامس أن النجاح ممكن، فربما كانت أسئلة عمرو أديب كلها فيها قدر غير قليل من الاستعجاب حول إمكانية النجاح. المعضلة هنا أننا نجحنا أحيانا وهو ما يبشر، ولكننا لم ننجح بالقدر الكافى وهو ما يثبط. وللأمر تفاصيل كثيرة، وأحاديث أخرى.