إرهاب الإرهابيين مرة أخرى
الإرهاب ليس نوعا جديدا من الحروب، وإنما هو قديم قدم الصراع الإنسانى حيث عرفت البشرية أشكالا من الاغتيالات، والعمليات التى هدفها بث الذعر والخوف والتوتر فى المجتمعات المختلفة. بشكل عام عرف الإرهاب بأنه نوع من الحروب قليلة التكلفة التى تبنتها جماعات أيديولوجية قليلة العدد والعدة للتعامل مع حقيقة الخلل الكبير فى توازن القوى بين الإرهابيين وخصومهم؛ وفى بعض الأحيان استخدمتها حركات للتحرر الوطنى تحت مسمى «الإرهاب الثورى» لإعطائها نوعا من القدسية والنبل. وفى التاريخ الإسلامى اعتمدها بقوة جماعات «الخوارج»، ومن لحق بها فكريا من المتشددين والغلاة، والذين كان من بينهم جماعة «الحشاشين» الذين اشتقت من اسمهم اللغة الإنجليزية كلمة Assassens، أو هكذا شاع؛ ولكنها فى كل الأحوال خلقت علاقة بين الإرهاب السياسى وأنواع من المخدرات التى كانت تعطى للقاتل نوعا من الغيبوبة اللازمة للجرأة بل وحتى الاستعداد للانتحار. وعلى أى الأحوال فإن العلاقة مع المخدرات ظلت موجودة حتى الوقت الراهن سواء كمصدر للتمويل كما هو الحال فى أفغانستان وسيناء؛ أو كمصدر للشجاعة فى أماكن أخرى.
وفى العام الماضى، واعتقادا بأنه لا يفل الحديد إلا الحديد، كتبت مقالا تحت عنوان «إرهاب الإرهابيين» يقول بأن مواجهة الإرهابيين لا يكون إلا بوسائل ترهبهم أكثر، وهذه من الناحية العملياتية متروكة للمتخصصين والمقاتلين من القوات المسلحة والشرطة، لأنهم هم الذين يعرفون كيفية الردع لمن قرر الموت فى سبيل تحقيق هدف إرهاب المجتمع وإخضاعه لعملية هندسة دينية من نوع ما. ما نحاوله هنا هو أن تكون المقاومة قائمة على فكرة إرهاب الإرهابيين بأنهم سوف يكونوا من الخاسرين؛ فحجر الزاوية فى التفكير الإرهابى هو اليقين الذى لا يعرف الاهتزاز أن النصر معقود بمنحة سماوية لا ترد. ومن هنا فإن نصر المجتمعات لا يكون إلا عندما لا تعطى الإرهابيين الفرصة لتصور أن أعمالهم الإرهابية سوف تمنع المجتمع من ممارسة الحياة والعمل. الأمر المهم هنا بعد العمليات الإرهابية الأخيرة فى طنطا والإسكندرية فإن المجتمع المصرى سوف يكون عليه إثبات أن الحياة والعمل والإنتاج سوف يستمر وبإنتاجية أعلى وإصرار أكثر. المشروعات العملاقة عليها أن تمضى قدما وبسرعات أعلى، والقطاع الخاص عليه أن يستعيد حيويته، والقطاع العام عليه أن يقلل من خسائره، ويجد طريقا لاستثمارات جديدة، وعائدا أعظم.
«إرهاب الإرهابيين» يكون أكثر فعالية عندما يثبت مرارا وتكرارا فساد استراتيجيتهم، والواضح أن الاستراتيجية الراهنة للإرهاب فى مصر هى شق الصف الإسلامى المسيحى باستهداف المسيحيين الذى بدأ بالضغط المعنوى فى أمان متفرقة من مصر، ثم بعد ذلك استهداف أفراد فى العريش، وبعدها الضغط على العائلات المسيحية هناك للرحيل، وأخيرا توجيه الضربات للكنائس. صحيح أن عددا من المسلمين جرى قتلهم خاصة بين العاملين فى الشرطة؛ ولكن القصد الاستراتيجى كان خلق هذه الحالة من الذعر بين مسيحيى مصر بحيث يدخلون ضمن ما يسمونه فى الغرب «مسيحيى الشرق» المضطهدين، ومن ثم يلفهم ما لف قبلهم من اضطهاد ونزوح جرى فى العراق وسوريا والمشرق العربى بشكل عام. فشل هذه الاستراتيجية بدأ عندما وقفت الكنيسة الوطنية المصرية وقفة شجاعة، وقام الرئيس السيسى بزيارة الكاتدرائية فى عيد الميلاد، وعندما قامت القوات المسلحة بإعادة بناء الكنائس المحترقة فى أعقاب أحداث رابعة، وكذلك الكنيسة البطرسية، وعندما بدأت بالفعل فى إصلاح كنيسة مارجرجس فى طنطا والكنيسة المرقسية فى الإسكندرية. ولكن كل ذلك على أهميته الشديدة لا يكفى، فالإرهاب الكامل للإرهابيين سوف يكون عندما نطبق الدستور المصرى الذى يعلى من شأن المواطنة والمساواة الكاملة بين المواطنين. فالقضية ليست فقط أن هناك مسيحيين قتلى، فهناك ما هو أكثر منهم من قتلى المسلمين (أكثر من ٩٥% من قتلى الإرهاب فى العالم الآن من المسلمين)، وإنما هى أكثر من ذلك دعوى لتقسيم المجتمع بين درجات مختلفة من المواطنين.
الاستمرار فى الحياة، وإفشال استراتيجية بث الفتنة بين المسيحيين والمسلمين خطوات تحتاج أخرى سياسية تعطى للدولة المصرية القوة والمنعة التى تجعلها تواجه أوقاتا صعبة من ناحية، وتعطيها قدرة اتخاذ قرارات لا تقل صعوبة. فمصر التى تواجه الإرهاب من ناحية، وتحاول من ناحية أخرى أن تحقق قفزات على طريق النمو والتقدم، لا يمكنها أن تفعل ذلك اعتمادا على شخص واحد، أو مؤسسة واحدة، وإنما تحتاج إلى توجه السياسى كبير للم الشمل أو باختصار إحياء «تحالف يونيو» مرة أخرى. الفكرة هنا أن الحرب على الإرهاب الذى هو جماعات محدودة، وأحيانا أفرادا فقط (الذئاب المنفردة) لا يمكن محاربتهم إلا من خلال المشاركة الاجتماعية فى الحرب، فالإرهابيون لا يتحركون فرادى وإنما لابد من تدريب، وتسليح، وتمويل، ومعيشة فيها السكن والاتصالات، وأحيانا التوجيه من قبل تنظيمات. استقراء كل ذلك، والتحرك لمواجهته لابد أن يبدأ من المجتمع كله الذى عليه أن يتعلم الكثير عن الإرهابيين وخصائصهم.
فى وقت من الأوقات، وفى ثمانينيات القرن الماضى، عانى المجتمع المصرى من ظاهرة انتشار ظاهرة الإدمان بين الشباب. مما دعا الصحافة والإعلام، وجماعات الفن والأدب إلى الاهتمام بالموضوع بدءا من عملية التعرف على من هو «المدمن»، وعلى كيفية مواجهته. دخلت الأسرة إلى قلب المواجهة، وبات عليها أن تنظر بين أبنائها السارق لأموالها، أو الذى يعانى من ظواهر صحية بعينها، وعادات فى مخالطة من لهم أيضا نفس الظواهر، وهكذا؛ وكانت النتيجة أن المجتمع كله دخل دائرة المواجهة. الآن وعلى نفس الشاكلة لابد أن نعرف من هو الإرهابى، ومن أين يأتى، وما هى العادات التى يتبعها، بل ما هو الخطاب والمفردات الكلامية التى يستعملها. المسألة هنا ليست فى استخدام مفردات دينية يستخدمها كافة المواطنين بحكم التقاليد، ولكن لأن السالكين لدروب الإرهاب يخلقون لغتهم وكلماتهم الخاصة وأدعيتهم المحددة. والحقيقة أنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال العلم والعلماء الذين يبحثون المادة العلمية المشكلة من التحقيقات التى جرت مع الإرهابيين، أو الدراسات التى تتم على الانتحاريين، مع الدراسات المقارنة مع أمثالهم من الدول الأخرى. وفى عقد الثمانينيات من القرن الماضى، وفى أعقاب اغتيال الرئيس السادات، قام المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية بقيادة الأستاذ الدكتور أحمد خليفة بتكوين فريق عمل من علماء الاجتماع وعلم النفس وغيرهم؛ وهؤلاء قاموا بالانكباب على حالات الإرهاب داخل السجون لدراستها. نتائج هذه الدراسات كانت أول من ألقى الضوء على واقع الحركات الإرهابية فى ذلك الوقت، وكان للدراسة التى نشرها الدكتور سعد الدين إبراهيم فى مجلة «فورين أفيرز»ـ على ما أذكرـ تأثيرا كبيرا على الأدب السياسى العالمى الخاص بدراسة الإرهاب والإرهابيين.
على هدى هذا الاتجاه، سارت مراكز البحوث المصرية فى بحث الظاهرة، ولعب مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية دور مهما، كما فعل مركز الدراسات والبحوث السياسية فى جامعة القاهرة بتتبع ظواهر التطرف الدينى التى هى المقدمة الأولى لاتباع الطريق الإرهابى. الخلاصة أن عملية تعبئة ضرورية للطاقات العلمية المصرية من خلال مركز متخصص لمقاومة الإرهاب باتت حاجة قومية، يمكنها أن تكون ذراعا بحثيا وعلميا للمجلس الأعلى لمقاومة الإرهاب. باختصار سوف نرهب الإرهابيين عندما نسبقهم، وعندما نعرف البيئة التى ينشأون فيها، وعندما نعرف سماتهم، وما الذى يحولهم من مواطنين عاديين إلى إرهابيين قتلة؟