كل الأنابيب تؤدى إلى مصر!

عنوان المقال مستعار من أحد العناوين الجانبية لتقدير الموقف الذى أعدته مؤسسة «ستراتفور» للتحليلات الجيو سياسية والاستراتيجية تحت عنوان «مصر: مركز الغاز القادم فى شرق البحر الأبيض المتوسط». التقدير، والواقع، والتطورات الجارية، كلها تقود إلى أن مصر أمامها فرصة تاريخية لو أحسنت استخدامها فربما تفتح أمامها أبوابا كثيرة، وجبهات متعددة ذات أبعاد ليست فقط اقتصادية، وإنما أيضا سياسية واستراتيجية. وحسن الاستخدام هذا يعنى، أول ما يعنى، أن نستفيد من الماضى، ونعرف أخطاءه، ولا نكرره مرة أخرى، خاصة أننا من المبدعين فى تكرار نفس الأخطاء السابقة بدرجة من الإدمان أحيانا!.

مقالات متعلقة

درس أمريكي في يوم العيد

الله أعلم

ونقطة البداية هى أن نعرف معرفة جيدة أن مصر عدد سكانها الآن ٩٢ مليون نسمة، وهى فى طريقها إلى المائة مليون خلال السنوات الخمس المقبلة، أما خلال العقدين القادمين فالمرجح أننا سوف نتوغل فى الزيادة إلى المائة مليون الثانية. الحقيقة الثانية، والدرس الثانى لنا، أن مصر لم يكن معروفا عنها أنها بلد نفطى، ولكن السبعينيات من القرن الماضى أباحت لنا بعضا من النفط، أما التسعينيات فقد أعطتنا بعضا آخر من الغاز. كان ذلك كافيا لكى يغطى استهلاكنا من كليهما، ومع زيادة عدد السكان، وما صاحبهما من زيادة فى الاستهلاك نتيجة ارتكاب أكبر حماقة تاريخية وهى الدعم المتزايد للنفط والغاز. انتهى الأمر بأننا مع منتصف العقد الأول من القرن الحادى والعشرين أصبحنا لا نكفى احتياجاتنا من الطاقة، وبعد أن كنا من المصدرين صرنا من المستوردين، وبعد أن كانت عائدات النفط والغاز تدعم الموازنة العامة، صارت نفقاتهما تزيد من عجز الموازنة. ومع قدوم عهد الثورات توقفت شركات النفط والغاز عن البحث ليس فقط لأن الأحوال الأمنية لم تعُد على ما يرام، وإنما لأن ديون مصر لهذه الشركات تفاقمت بعد أن أخذت حصتها من الإنتاج، وفوق ذلك لم تدفع ثمنها. ونجحت الحركات الإرهابية فى تفجير خطوط نقل الغاز إلى إسرائيل والأردن. أصبح الأمر كله خسارة صافية فى المال، والسمعة الدولية.

كل ذلك على وشك أن يتغير الآن، ويحسب للرئيس السيسى، والمهندس شريف إسماعيل، والمهندس طارق الملا وزير البترول، أن التغيير يمكنه تحقيق ثلاثة أهداف ربما قبل نهاية هذا العقد فى ٢٠٢٠: أولها انتهاء مصر من دفع كافة ديونها لشركات النفط، وقد بدأت مصر فى ذلك، والآن هناك تكالب من هذه الشركات على مصر رغم انخفاض أسعار النفط والغاز لأن مصر ببساطة تشكل فرصة لا تعوض. وثانيها تحقيق الاكتفاء الذاتى اللازم للاحتياجات السكانية والإنتاجية المصرية، وتصدير ما تبقى أو ما سوف يرد فى العقد القادم. وثالثها تحقيق إضافة كبيرة للموقع السياسى والاستراتيجى المصرى من جراء أن تكون مصر هى مركز وسوق وبورصة (Hub) الغاز فى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. مثل هذه الحقيقة لم يقررها تقرير «ستراتفور» فقط وإنما ذكرتها مصادر عالمية متخصصة فى النفط والغاز والطاقة فى عمومها، وأشارت لها صحف هامة مثل النيويورك تايمز وول ستريت جورنال.

محتوى الأمر ببساطة وسبق ذكره فى أكثر من مقال سابق هو أن مياه النيل التى حملت إلى البحر المتوسط عبر ملايين السنين الطمى ومواد عضوية أخرى، قد غيرت من التركيبة الجيولوجية للبحر حتى حوت مخزونا كبيرا من الغاز، وبعضا من النفط لم يتم تحديد حجمه بعد. هذا المخزون جعل المنطقة تحتوى على مخزون لا يفوقه إلا الموجود فى روسيا والسعودية، ولكنه يزيد عن ذلك الموجود فى منطقة الخليج. الأمر الهام أن الاكتشافات من الغاز بدأت تتزايد منذ بداية هذا القرن فى إسرائيل، وفلسطين، وقبرص، ومؤخرا فى مصر. وهنا فإن اكتشاف شركة «إينى» الإيطالية لحقل «ظهر» أو ما نسميه فى مصر «شروق» يعد مكملا لاكتشافات أخرى جرت فى الدلتا من قبل شركتى بريتش بتروليوم وشل فى جنوب غرب بلطيم وشمال دمياط وأبوماضى فى الدلتا. الحقيقة هنا أن النهر الخالد لم يعطِنا مياها وغذاء فقط على مدى ملايين السنين، وإنما ولد معهما طاقة سوف تتزايد اكتشافاتها مع الزمن وتجعل مصر دولة قائدة فى إنتاج الغاز. ولكن ذلك ليس وحده ما يميز الوضع المصرى فهناك أمور أخرى لا تقل أهمية.

أولها أن مصر هى أكبر سوق فى المنطقة لاستهلاك الغاز والنفط، بعدد سكانها من ناحية، وتزايد استهلاكهم من ناحية أخرى؛ ومضافا لاستهلاك البشر فإن مصر هى الأكثر تنوعا فى اقتصادها، والأكثر اتساعا فى صناعاتها عالية الاستخدام للطاقة مثل الحديد والصلب والأسمنت والألومنيوم والأسمدة، حيث لا توجد دولة أخرى من دول شرق البحر المتوسط تماثلها فى هذا الشأن. وثانيها أن الغاز يختلف عن النفط فى حاجته إلى بنية أساسية سواء لتوزيعه غازا، أو تسييله فى مصانع خاصة وتصديره إلى جهات أخرى عبر البحار. مصر لديها هذه البنية الأساسية ففى عهود سابقة أقامت مصر صناعة لتسييل الغاز يمكنها أن تتسع، كما أنها أنشأت شبكات من الأنابيب ليس فقط لكى توزع الغاز على المستهلكين المصريين، وإنما لكى تصدره إلى الخارج خاصة الأردن وإسرائيل ودولا أخرى. وثالثها أن مصر تتوسط منطقة واعدة ومنتجة بالفعل للغاز (إسرائيل بها حقلا تامارا ولفاثيان، وقبرص لديها حقل إفروديت)، وهذه تولد طاقة إضافية وقريبة للتوسع الصناعى المصرى، وهذه يمكنها أن تستخدم شبكة الأنابيب المصرية لكى تحمل الغاز إلى مصر، وهو ما حدث فعلا مع قبرص التى سوف تمد أنابيب الغاز إلى السواحل المصرية مع حلول عام ٢٠٢٠، كما أن شركات مصرية تجرى مفاوضات مع شركة نوبل المنتجة للغاز فى إسرائيل لكى تحمل الغاز فى الاتجاه العكسى ومن ثم تقضى على الاختناقات الحالية فى إمداد الطاقة للمصانع المصرية. ورابعها أن الرئيس السيسى فى إطار من استراتيجيته العامة لترسيم الحدود البحرية المصرية قد قام بذلك بالفعل مع اليونان وقبرص، ومن الممكن أن يمتد ذلك إلى فلسطين وإسرائيل ولبنان وسوريا.

ترسيم الحدود هنا ضرورة جوهرية نظرا لأن حقول النفط والغاز ليست مقيدة بالحدود الجغرافية للدول، ولكنها على الأرجح تمتد بين المناطق الاقتصادية المخصصة لها بمقتضى قانون البحار الدولى والذى أسس لتقاليد تقسيم العائد من منتجات البحر فى المناطق المتداخلة بين دولتين أو أكثر. مصر هنا يمكنها أن تلعب دورا هاما ليس فقط فى بناء التعاون الإقليمى بين دول شرق البحر الأبيض المتوسط، وإنما أيضا بأن تكون معبرا للغاز السعودى الذى تعد المنطقة الغربية (أى البحر الأحمر على جانبيه) من المناطق الغنية بالغاز، ولا يفوقها فى المملكة إلا منطقة الربع الخالى. استغلال هذه الاحتياطيات ونقلها عبر جزيرتى تيران وصنافير ثم عبر سيناء ومنها إلى سواحل مصر الشمالية حيث يمكن تسييلها أو نقلها عبر الأنابيب إلى أوروبا يكون فاتحة خير للتعاون المصرى السعودى، والتعاون بين دول البحر الأحمر، وهؤلاء فى شرق البحر الأبيض، وفى المركز من كل ذلك سوف تكون مصر بمكانتها السياسية والاستراتيجية.

هنا ربما وجب التذكير بأن مصر تقوم بهذا الدور فعلا الآن، فقناة السويس معبر هام من معابر بترول الخليج إلى أوروبا، كما أن مصر هى معبر خط السوميد الذى ينقل نفط الخليج من ميناء عين السخنة على خليج السويس إلى البحر المتوسط غرب الإسكندرية. الأوضاع الجديدة، وما تحمله من احتمالات للتوسع سوف تجعل من خطط مصر الحالية فى منطقة قناة السويس ذات أهمية مضاعفة. المهم فى كل ذلك ألا نفقد الفرصة، أو نفسدها بإهدار ما ترد به من خير، فمن الآن فصاعدا لا يجب أن نضيع ما لدينا من طاقة لأن مكانها الصناعة والاستثمارات الأخرى، أما من يريد التعامل مع الفقر فإن لذلك وسائل أخرى.

**نقلا عن المصري اليوم

التعليقات