الشتات والتمزيق يضربا عائلات غزة في "أكبر حركة نزوح اجتماعي في التاريخ الحديث"

شهد قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، أكبر حركة نزوح اجتماعي في تاريخه الحديث، إذ عاش كل بيت تجربة النزوح مرة أو اثنتين أو عشرات المرات، وفقًا لدراسات اجتماعية أكاديمية.

كما أن هذا النزوح المتكرر لم يكن مجرد انتقال مكاني، بل كان تفكيكًا بطيئًا لبنية العلاقات الاجتماعية، التي حافظت على تماسك المجتمع الفلسطيني لعقود، ومسَّ جوهر الإنسان ذاته في طريقته بالمعاملة والثقة والخوف والحنين.

تمزيق للجغرافيا العائلية

أدى تدمير المنازل وتجمع مئات الآلاف من النازحين في مناطق ضيقة إلى تشتت العائلات وتفرق أفرادها في أماكن متباعدة بشكل كامل، فالعائلات الممتدة التي كانت تعيش في بيوت متعددة الطوابق تجمع الأجيال المختلفة، باتت موزعة بين محافظات ومخيمات متباعدة، ما خلق فجوة عميقة في التواصل اليومي وأضعف الشعور بالانتماء الجمعي.

وتشير التقارير الميدانية لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، إلى أن المناسبات العائلية، التي كانت تمثل عماد الحياة الاجتماعية في غزة، اختفت تمامًا بفعل الحرب.

فبعد أن كانت تجمعات العائلة الأسبوعية تعج بالضحكات وأصوات الأطفال، وأمسيات تجتمع العائلة حول سفرتها، تحولت إلى ذكرى بعيدة وسط أطلال الدمار في القطاع.

والعائلات التي كانت تجتمع بشكل دوري في منازلها أصبح أفرادها موزعين بين الزوايدة وخان يونس ودير البلح ومخيم جباليا، دون قدرة على اللقاء بسبب انشغال الجميع في معركة البقاء اليومية لتأمين لقمة العيش.

كما تفككت الحياة الاجتماعية للشباب في الحارات، أولئك الذين كانوا يجتمعون يوميًا للسهر أو لمشاهدة المباريات أو الشواء في الأزقة الضيقة، التي كانت تنعش الحياة الاجتماعية.

ووفق التقارير، بات كل واحد يعيش في عالم منفصل تحكمه فكرة النجاة أكثر من أي شيء آخر، في تحول اجتماعي عميق من الكرامة الجماعية إلى العزلة الفردية، إذ يُشاهد من كانوا معروفين بروحهم المرحة ومبادرتهم لمساعدة الآخرين واقفين في طوابير المساعدات الغذائية يخفون وجوههم خجلًا.

سرقة الطفولة والمستقبل

وتشير تقارير من منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" إلى أن الأطفال شكلوا الفئة الأكثر تضررًا من النزوح المتكرر، إذ حُرموا من مدارسهم وبيئاتهم التعليمية والاجتماعية، ووجد كثير منهم أنفسهم مضطرين لمساعدة عائلاتهم في تأمين الطعام والماء بدل اللعب والدراسة، إذ كبر الأطفال قبل أوانهم وانشغلوا بالتفكير في هموم الحياة بدلًا من عيش طفولتهم، فالنزوح لم يسرق بيوتهم فحسب، بل سرق أيضًا ملامح الطفولة والدفء العائلي.

وبحسب الدراسات الاجتماعية، خسر الأطفال جزءًا كبيرًا من طفولتهم، وحُرموا من المدرسة بوصفها مساحة لبناء الصداقات والانتماء الاجتماعي، في واقع ينهك الجميع ويفرض على الصغار قبل الكبار التكيف مع منطق البقاء القاسي.

التوترات اليومية

أنتج الاكتظاظ في المخيمات والخيام، حيث أُجبرت عائلات كبيرة من مدن مختلفة على العيش تحت سقف واحد يتقاسمون الخبز والماء والقلق، توترات يومية صارت جزءًا من الواقع الجديد، كما تنشأ الخلافات لأسباب بسيطة كطريقة توزيع الطعام أو الماء، أو بسبب ضيق المكان المخصص للنوم، إذ يعيش الجميع حالة توتر نفسي تجعل الانفعال أسرع من المعتاد في غياب الخصوصية والمساحات الشخصية.

هذا الواقع القاسي لم يمنع ظهور أشكال جديدة من التضامن، فالتجاور القسري بين العائلات النازحة من مناطق مختلفة أنتج علاقات قائمة على المشاركة في المعاناة، وأعاد تعريف مفهوم التضامن الشعبي والعائلة ذاتها، التي لم تعد مرتبطة فقط برابطة الدم، بل أصبحت تُعرّف بوصفها جماعة ناجية.

الذكريات مقابل الواقع

يعيش النازحون صدمة يومية متجددة بين الذكريات والواقع، فحين تفوح رائحة طعام يشبه ما كانت تطهوه الأمهات في البيوت القديمة، يشعر كثيرون للحظة وكأنهم عادوا إلى تلك الأيام، لكنهم سرعان ما يصطدمون بواقعهم حين يفتحون أعينهم على مشهد الخيمة المحيطة بهم.

هذا التناقض بين الذكرى والواقع، وفق التقارير النفسية، يشكل أحد أكثر الجوانب إيلامًا في تجربة النزوح، فالحياة التي عرفوها رحلت، لكن الذكريات ما زالت تطاردهم في كل تفصيل.

 

 

التعليقات