عبد الرحيم كمال يكتب: شيرين عبدالوهاب.. بين حرية الصوت وسجن النجومية

موهبة حرة جامحة ، تُغني عن الجرح فتشعر أنت بالوخز في جلدك ، وتُغني عن الفراق فتذرف عيونك دموعا، وتقول يا حبيبي فتشعر أنك أنت المقصود من صدق وحرارة الأداء ، ولكن يبدو أن الصدق والحرية حينما يرتفعان بصاحبها إلى مرتبة النجومية عليه أن ينتبه إلى ذلك السجن الذي دخله بقدميه وكل شيء داخل قضبان سجن النجومية محسوب بدقة، والنجومية فكرة تُعادي العفوية قد تستثمرها في البداية حتى تُدخلها دائرة التصنيع والتسليع، وهنا تظهر المشكلة الكبرى حينما يكون النجم قادما من منطقة الصدق والحرية تلك وغير قادر على برمجة النجومية وآلياتها، صحيح أن موهبته (صوت شيرين) قادرة على سحر ملايين المستمعين، لكن الموهبة وجمهورها معًا عليهما أن يُسلما أنفسهما لمصنع النجومية فيجعلون القريب بعيدًا ويجنون من وراء صوته الملايين ويشاركونه فيها ، لكن الأمر ليس المال وحده ، على النجم أو النجمة التحلي بالمرونة التامة حتى يكون طيعًا عند التشكيل يتحرك في مساحة الضوء المسموح بها وينطق خارج الغناء بكلمات قليلة محسوبة ، أما الغناء نفسه فعليه أن يكون غناء مُحايدًا لا ينحاز لشيء أو معنى مقصود أو فكرة سياسية تناقض التوجه العالمي ، عليه أن يكون عصفورًا مُغردًا في قفص النجومية ينتقل به هذا القفص من مسرح إلى مسرح ومن فندق إلى فندق ومن فرح إلى فرح وهو يحافظ على توازن دقيق فرضته فكرة النجومية وهي الفكرة التي تجب كل شيء، وهنا يحدث الصدام ليس فقط بين صوت شيرين عبدالوهاب وجدار النجومية الصلب ولكنه قصة مكررة في مجالات فنية متعددة تصطدم فيه الموهبة التي بلا لجام مع المروض القاسي، يكون ذلك النوع من الموهوبين لا يستطيع التعبير عن موهبته إلا بطريقته هو حتى لو كانت طريقته تلك تبدو من وجهة نظر الموهوبين النظاميين خارجة عن نطاق اللياقة وما اعتادوا عليه من أعراف، الموهوب الحر يريد براحًا مختلفًا ومناخًا غير المناخ المعتاد، يريد أيضًا مساحة من التسامح مع أخطائه لأنه يقدم فنًا مختلفًا عن الآخرين ، فنًا حقيقيًا وصادقًا وهو أندر أنواع الفن وأغلاها، هذا لا يعني بالضرورة أن يكون الفنان الصادق مثلًا فنانا وقحا أو سيئ الخلق لكنه يعني أنه مختلف، يريد عقولًا أكثر اتساعًا في التعامل معه وقلوبًا أكثر رحمة أيضًا في تهذيبه.

قبل ظهور النجومية الجديدة القاسية كان هناك في الماضي نجومية وطنية، نجومية محلية الصنع نجم يصنعه الجمهور وحده وليس الاعلان ولا الشركات الكبرى، فكانت أم كلثوم لا يحيط بها شركات دولية توجه أم كلثوم نحو شكل محدد من الأداء ونمط واضح من الظهور، لكن يحيط بها مجموعة من الشعراء والمثقفين والصحفيين ونساء ورجال الطبقة الراقية في العصرين الملكي والجمهوري ورجال السياسة المحليين، كل هؤلاء كانوا قادرين على تحويلها إلى أيقونة شعبية وقادرين أيضًا على منحها الكثير من الثقافة السمعية، وتستطيع بحكم موهبتها أن تتعلم بقربهم الكثير من مفاهيم اللياقة والشياكة وفن التعامل لتحقق تلك السيدة الموهوبة المعجزة بأن تكون النجمة الراقية اللامعة المهذبة وفي داخلها المرأة المصرية الفلاحة الفطرية خفيفة الظل فكانت نجمة منتمية، نجمة تشبه عصرها وموطنها وتعبر عنهما خير تعبير، ولكن الأمر مختلف في عصر شيرين عبدالوهاب صاحبة الصوت البديع والإحساس الرائع والقادرة على الوصول إلى جمهورها في زمن زويلى (نسبة إلى الفمتو ثانية وأحمد زويل) لكنها نجمة في عصر صارت فيه النجومية محكومة بقانون صارم وصار فيه الجمهور والجماهيرية والموهبة مجرد تفاصيل في حسبة جهنمية أكبر، إما أن يكون النجم واعيًا ومرنًا ومطيعًا وقليل الجنون وإما أن تكون موهبته مرهونة بحريته وحريته لا كابح لها، فيكون الصراع غير المتكافئ بين الصوت المرهف وآلة النجومية الحادة، الأمر كان كذلك بالنسبة لنجوم شتى فكان سيد درويش الموهبة العظيمة في مواجهة شخصيته الحرة وغرامها ونزواتها، وكان مارادونا النجم الكروي الأرجنتيني الذي لا نظير له في الكوكب وبين نزواته ورغباته، ونستطيع أن نضرب مئات الأمثلة لنجوم ومواهب كبيرة قاومت في الماضي والحاضر آلة النجومية بقوة وشراسة لكن الأمر في ذلك العصر مختلف وعنيف ، فالنجومية اكتملت آلتها ولن تسمح لأي موهبة مهما كان حجمها ولمعانها وجماهيريتها أن تخرج خارج قانونها، فإما أن تكون موهوبًا مطيعًا قليل الجنون والنزق وإما أن تكون موهوبًا مجنونًا حرًا تقاوم آلة النجومية وتتحمل الخسارة، رغم أنك ستمنح العالم أعمالا قليلة خالدة لن تنجح أقوى الآلات فى محوها من أذهان الناس، وأنا شخصيًا أتمنى أن تظل شيرين عبدالوهاب كما هي ، لأنها موهبة قليلها كثير.

** نقلاً عن الأهرام..

 

التعليقات