اختطاف المدينة

نتنقل فى حياتنا من مكان لآخر، منازل وأحياء وقرى ومدن وبلاد وربما قارات، وكأننا ندور مع الكرة الأرضية إلى ما لا نهاية فى حركة لا تتوقف، ونعيش العمر كله فى انتظار ما تتنبأ لنا به البصارة من أحداث وأفراح وسفر لمسافات بعيدة وقصص الحب والزواج والثروات والأملاك والعتبة التى ننتظر أن تظهر كرمها والسعادة التى تنتظرنا عندما نعبرها وإلا فعلينا مغادرتها كما قرأنا والبحث عن أخرى تحمل الخير داخلها، ونمسك بفنجان القهوة الصباحية لنحرك فيه الرسومات ونتخيل أسماء محفورة ودموع تنهمر وقلوب تحلق فى السماء ومواليد جديدة ومناصب وثورات ومناجم من ذهب وهدايا قيّمة وأوراق رسمية وعقود زواج وعقود أراضٍ وغيرها. وعندما نلتقى بقارئة الودع نعدو إليها بفرحة بحثاً عما تحكيه لها تلك القطع الدقيقة الجميلة وكلما ألقت بها على الرمال وتغيرت أماكنها ازدادت دقات قلوبنا وارتفع معدل ضغط الدم ولمعت عيوننا وعشنا لحظات من جميع المشاعر المختلطة وفى النهاية لا يبقى لنا إلا الانتظار، ومن أجمل الأحلام أن نرى القطار أو الطائرة أو السفينة فهذه الرموز تحمل العديد من المعانى إلا أن هناك تنبؤات لا تخطئ وعلامات ترسلها لنا السماء فنعيش فى خوف وقلق أن تختطف الأيام السعيدة منا أو الأمانى والمستقبل ولكن أقسى تلك الأحداث وأشدها ألماً أن تختطف منا مدينتنا بما تضمه من ماضٍ وطفولة وشباب أيامنا. وقديماً تعلمنا فى طفولتنا بين أوراق كتاب ذى صفحات معدودة يحمل على غلافه كلمة التربية القومية أن الشعوب التى تعيش فى المدن من أهم الثروات وأنها تصنع التاريخ وتسجل الأحداث والأيام المشرقة والأخرى التى يطول ليلها وتفقد الأمة فيه العديد من خيرة شبابها ثمناً للحرية، كما تعلمنا أن ثورتنا المجيدة فى يوليو ١٩٥٣ كانت ثورة بيضاء لم تلجأ إلى سفك الدماء واكتفت بتحرير الأرض من الفساد لنعيش ونتعلم ونصل للعالمية والفضاء ويشغل أبناؤنا ودبلوماسيونا مقاعد المراقبين الدوليين ويصبحوا أعضاء فى أهم المحافل الدولية، فقد قمنا باختطاف أجيالنا ومدننا وحررناهم من الفساد. وتدور الأيام وتنحسر مياه الأنهار والبحار وتتغير التضاريس وتنهار جبال وتنشط براكين لتدفن تحت حممها مدناً كاملة بسكانها ومبانيها وأشجارها التى تتحول إلى صخور محترقة، وتتغير نظم سياسية وسياسات ومبادئ وتختفى لهجات وتظهر لغات لم تعرفها الإنسانية من قبل ولم نرسم حروفها فى صغرنا ولا سمعنا موسيقى تعبر عنها ولم نقرأ كتباً تتحدث عن جغرافيتها أو تاريخها وأبطاله وزعمائه ورموزه وإعلامه، فقد نسيت البصّارة أن تحدثنا عنها ولم تظهر أى علامات لها فى فناجين القهوة السوداء وكأنها مارد اخترق سطح الأرض فجأة وبدأ فى كتابة تاريخ جديد. ومهما كانت المدن ومهما ضمت من عوائق للنجاح أو السعادة، فإن كل تلك المشكلات يأتى يوماً تختفى فيه وتتبدل الأوضاع، لأننا لا نشعر بالدفء إلا فى ذلك الحضن الكبير الذى نشم فيه رائحة أمهاتنا والأمان والاستقرار، فتلك الأرض هى الجذور والخروج منها أو الابتعاد عنها هو عقوبة وإن حدث فإننا نعرف قيمتها وسرعان ما نستدير لنعود من جديد لنتذوق خبز الجدة العجوز وكعك العيد وحلوى السكر الملون ونرتدى ثياب العيد التى تصنعها لنا الأمهات وتغزل خيوطها فى صبر واستمتاع على أنغام مطربى الزمن الجميل وكلمات شعراء الرومانسية وهديل الحمام وغناء الأمهات الصغيرة للرضع بحثاً عن نوم وأحلام خضراء. وتبقى دائماً كل تلك الكلمات لا تحمل إلا معنى واحداً تترجمه جميع اللغات وتتوحد مخارجه فى علم الصوتيات وتضىء صورته السماء فى الليالى القمرية ولا تخاف من حرارة الشمس وتظل عالية فى السماء تحتمى خلف الأهرامات وتنظر للعالم كله لأنها مدينتى المحصنة ضد الاختطاف.

المقال / خديجة حمودة 
الوطن
التعليقات