حين يقهر «الطفل» رجلا

حين تُعامل كشخص كبير وأنت طفل، فإنك تصبح طفلاً كبيراً حين تكبر، بعض الأسر التى تعتمد أسلوب التربية المنغلقة تنحو هذا النحو فى تربية أولادها، خصوصاً حين يكون الأب شغوفاً بإعداد ابن له، أو كل أولاده، لمهمة معينة فى المستقبل.

لا يصدُق هذا القول على سيرة شخص مثلما يصدق على سيرة الملك فاروق، آخر ملك فعلى لمصر، والذى امتدت حياته من عام 1920 حتى عام 1965، ومثّل مولده فرحة كبرى عمت البلاد والعباد، والسر فى ذلك أنه كان «ابن شيبة» أنجبه أبوه الملك فؤاد، بعد أن بات كهلاً عابراً للخمسين من عمره بسنوات.

اعتلى الملك فاروق عرش مصر عام 1936، واستقبله المصريون بالترحاب، وعقدوا عليه آمالاً كبيراً، وهم ينظرون إلى وجهه الوسيم الهادئ الناطق بالطيبة، وخلب عقولهم، حين وجدوه صبياً بلغ بالكاد 18 سنة هلالية، ويجلس على سرير ملك مصر، ورغم ذلك يحرص كل الحرص على الصلاة والصيام، ويصلى الجمعة كل أسبوع فى أحد المساجد، ويتزوج سريعاً، فما كان من بعضهم إلا أن أطلق عليه الملك الصالح.

أحاط بالصبى «فاروق» مجموعة من الأسود الشائخة من كبار الساسة المصريين، كان أغلبهم يتحرك مدفوعاً برغبة فى تحقيق مصالح حزبية أو ذاتية ضيقة، وجلس على العرش فى مواجهة أسد إنجليزى عجوز كان الصبى يريد التحرر منه، فى حين يتمسك الأسد الشائخ، بكل قوته، بما تبقى له من مستعمرات فى أفريقيا، خصوصاً وهو يلاحظ القوة الجديدة الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية، والمتمثلة فى الولايات المتحدة الأمريكية.

ينجب الملك الصبى ثلاث بنات من زوجته الفتاة صغيرة السن، لكن العلاقة بينهما لا تستمر بسبب عدم النضج الناتج عن الزواج فى سن صغيرة. ينظر «فاروق» داخل القصر، فلا يجد إلا أمه الملكة العابثة «نازلى».لم يقابل الصبى الصغير بعد اعتلاء سرير الملك سوى الإحباط، الإحباط من النخبة التى تتفاعل على مسرح السياسة، والإحباط من الزوجة، والإحباط من الأم. كان السنوات تمضى فتزيده إحباطاً، شعر فى لحظة أن علته أنه لم يعش طفولته وصباه، وأن بمقدوره أن يعالج نفسه، وضرب صفحاً عن العمر الذى جرى به، والموقع الذى يشغله.

غرق الملك الشاب فى موائد القمار، وجد فى لعب الورق مخرجاً مما يشعر به من إحباط، بدأ الشاب يتبنى نظرية «المقامرة» حتى مع شيوخ السياسة المتثعلبين، فأخذ يتثعلب معهم، ويوظف الدسائس، وإخفاء الأوراق، طارد الجميلات فى محاولة لاستدراك صباه الراحل، عالج إحباطه أيضاً بالشغف بالطعام، لكن كل الروايات تُجمع أنه لم يكن يعاقر الخمر، ولم يترك العبادات، بل ظل متمسكاً بها.

منحت الأقدار الملك فاروق لحظة كان يمكن أن تشكل نقطة تحول فى حياته، حين أنجب ولده أحمد فؤاد الثانى، آخر ملك رسمى لمصر، ربما يكون الرجل قد فكر حينها فى استعادة توازنه، لكن الأوان قد فات، بعد أن تمكن الطفل الساكن بين جوانحه من هز صورته بشكل كامل أمام الكثيرين من أفراد شعبه، هؤلاء الذين اعتبروه بالأمس حلماً وأملاً، فخرج من مصر شريداً طريداً كما سبق وخرج جده الخديو إسماعيل منها ممتطياً ظهر «المحروسة».مات «فاروق» ميتة غامضة فى إيطاليا، تعددت فيها الروايات، واختلفت فيها الأسباب، لكنها فى كل الأحوال وضعت كلمة النهاية فى حياة رجل قتله الطفل الصارخ داخله.

المقال / د محمود خليل 

لوطن

التعليقات