منظمات وهمية.. وعصبية مميتة
درءاً للملل ومنعاً لتكرار الفكرة بأشكال وألوان مختلفة، اخترت أن أشارك القراء الأعزاء هذا الأسبوع توليفة من الأفكار والمشاهدات المختلفة على سبيل التغيير:1- تواترت فى الأسابيع القليلة الماضية أخبار عن كيانات أسميها بـ«الوهمية» أو «المدعية» أو التى تطلق على نفسها أسماء «تقتبس» فيها مسميات لجهات أممية أو دولية أو محلية معروفة. والغرض غالباً يكون ادعاء الانتماء لهذه الجهة دون أن تعرض نفسها للمساءلة. على سبيل المثال: تقرر مجموعة من الأصدقاء أن تشترى مبيدات وأجهزة رش وتقدم نفسها للعملاء عبر صفحة على «فيسبوك» باعتبارها «شركة الأمم المتحدة لأبحاث الجرذان». وتكون مجموعة الأصدقاء قد ضربت كذا عصفور بحجر. فهم يقدمون أنفسهم باعتبارهم شركة، والمسألة لا تتعدى كونهم أفراداً اشتروا مبيدات ولم يسجلوا النشاط فى جهة أو مصلحة، كما أنهم «أمم متحدة» وهو ما يجعل البعض يعتقد أنهم ربما حاصلون على توكيل أو ترخيص من المنظمة الأممية لممارسة نشاطهم. وكلمة أبحاث تضفى عليهم صفة العلم وتعطيهم مكانة العلماء، أما الجرذان وليس الفئران فشياكة أدبية تضفى رونقاً على الفئران. مثل هذه الكيانات تعطى درجات دكتوراه وشهادات تكريم وميداليات تقدير، والحاصلون عليها يصدقون، ويلتقطون الصور لأنفسهم وهم يحملونها ويتباهون بها على صفحات الـ«سوشيال ميديا». والأظرف أن بين أصدقائهم ومتابعيهم من يشعر بالغيرة ويبادر بالاتصال بشركة الجرذان الأممية لعله يحصل على دكتوراه شبيهة أو شهادة جميلة. تذكرت هذه الخلطة السحرية حين قادتنى المصادفة لمقابلة سيدة لطيفة قدمت نفسها باعتبارها مختصة فى التغذية وتخفيض الوزن، ومعالجة نفسية، وحاصلة على أكثر من درجة دكتوراه من الأمم المتحدة. وبعيداً عن أن الأمم المتحدة لا تمنح درجات علمية ولا حتى الابتدائية، فقد اتضح أن هذه السيدة لم تدرس علوم التغذية أو النفسية من قريب أو بعيد، لكنها -للشهادة- تتمتع بلسان حلو وقدرة على الحديث المستفيض بنبرة رخيمة قادرة على إقناع من يسمعها إنها متخصصة فى علوم الكرة الأرضية.2- هذا الكم من الزعيق والصراخ والصخب والعصبية التى تصدر من الهواتف المحمولة القابض عليها ملايين المصريين من شأنه أن يضربنا جميعاً فى مقتل. صحيح أن المحتوى فى أغلبه تافه، والغرض من الصراخ فى مجمله يكون مسرحية محبوكة، سواء فى الرياضة أو الفن أو حتى ما يبدو أنها دين، والدين أبعد ما يكون عن هذا السلوك الشائن المريع المروع الذى كنا ننهى عنه الصغار فى البيوت والمدارس أيام زمان. فالصراخ سلاح الضعفاء، والزعيق أداة من لا يملك أدوات المنطق أو التعقل والتفكر. هذا المحتوى القائم على الزعيق و«الشرشحة» أصبح تفصيلة من تفاصيل الحياة اليومية. وهو -كغيره من التفاصيل المتكررة- تفرض نفسها على الغالبية وتتوغل فى حياتهم، فيعتادونها وكأنها أمر اعتيادى. لكنه هنا اعتياد القبح، تماماً كما نعتاد أن نجلس فى مطعم محاط بتلال القمامة، أو نستمع إلى أحاديث تعلو فيها الشتائم من باب الدعابة والهزار، أو يقرر أحدهم أن يطلى شرفته باللون البمبى المسخسخ رغم أن العمارة لونها بيج. اعتياد القبح المتمثل فى الصوت العالى يبنى أجيالاً تعتبر الصراخ أسلوب حياة، وهذا شىء يقصر العمر.3- الوعظ والإرشاد عملية محفوفة بالمخاطر، ومن يقرر أن يخوضها، عليه أن يتحمل نتائجها غير المتوقعة. مبدئياً، الإنسان العاقل الحاصل على قدر جيد (أقصد ذا جودة) من التعليم، الذى حظى بتنشئة أسرية وثقافية واجتماعية صحية لا مجال للسطوة أو دس سم الترويع فى عسل الطاعة العمياء لا ينجرف وراء من يعظه دون إعمال للعقل أو ترجيح للمنطق. وقد جرى عرفنا على إضفاء سمة تشبه القدسية على من يقرر أن يكون واعظاً، أو من يتم تنصيبه مرشداً بحكم الصفة الوظيفية. وفى السنوات الماضية، توسعت قاعدة الوعاظ والمرشدين لنجد من ينصّب نفسه فى هذه المكانة وهو طبيب أو سباك أو مهندس أو نجار أو قارئ نهم تصور أن قراءته لبعض الكتب تجعل منه أرسطو إمبابة أو أرخميدس العمرانية. هؤلاء وغيرهم عليهم أن يتحملوا ضريبة الوعظ العام، لذلك حين تأتى، عزيزى الواعظ، وتخبرنى بأن علىّ أن أفعل كذا وأن أنأى بنفسى عن ذاك، ثم أفاجأ بأنك أو المقربين منك يفعلون ذاك ولا يقربون كذا، فسأصنفك فى التو واللحظة باعتبارك واعظاً غير متصالح مع نفسه ومرشداً عليه أن يحتفظ بإرشاداته لنفسه، لا سيما أننا فى مرحلة من الوعى والثقافة والتنوير لا تتيح للكثيرين منا أن نفرق بين الصالح والطالح، والعالم وشبه العالم.4- العالم كله يموج بكم غير مسبوق من التغيرات السياسية والاقتصادية والمناخية والأمنية غير المسبوقة، والمنطقة العربية حظها وافر من هذه التغيرات التى تصل لدرجة التقلبات العنيفة والمميتة. نحمد الله كثيراً على نعمة مصر رغم كل الصعاب.