الباشا «في البيت»
حين قامت حركة الضباط فى يوليو 1952 كان عمر مكرم باشا عبيد قد جاوز الستين من عمره (63 سنة على وجه التقريب)، وقد شهدت الفترة الأخيرة من الأربعينات خلافات شديدة بينه وبين الجناح الأول، الذى كانت تطير به الزعامة الوفدية، والمتمثل فى مصطفى باشا النحاس.
ولا نستطيع بحال أن نقول إن الخصام المؤقت الذى وقع بين الزعيمين الكبيرين أدى إلى إضعاف شعبية أىٍّ منهما، فقد ظلا فى مكانهما داخل الوجدان الشعبى المؤمن بالفكرة الليبرالية، لكن يمكننا القول إن الظروف السياسية التى فرضت نفسها على عقد الأربعينات من القرن الماضى كانت تهيئ لانسحاب الزعماء التاريخيين الكبار للانسحاب من مسرح السياسة.
زعامات من نوع جديد بدأت تفرض نفسها على الشارع فى ذلك الوقت، تأثرت بالحركة الفاشية العالمية، مثل زعامة حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، وأحمد حسين، مؤسس حركة مصر الفتاة.
كان الكثير من المصريين فى ذلك الوقت قد وصلوا إلى حالة مضنية من اليأس، بسبب عجز القوى والزعامات السياسية القديمة عن تحقيق حلم الاستقلال وإجلاء الإنجليز عن مصر، وبدأت الأفكار الفاشية تستقطب الشباب، وباتت الجماعات التى ترفع شعارتها قبلة للكثيرين منهم.
كانت مصر حينها حبلى بثورة جديدة توشك أن تقع، كان المؤمل من خلالها أن تستعيد أفكار وقيم ثورة 1919، لكن الأحداث تلاحقت بعد ذلك بصورة خطيرة، فوقعت هزيمة 1948 أمام الكيان الصهيونى، وأعقبها ما تعرفه من أحداث، كان أبرزها معركة الإسماعيلية، ثم حريق القاهرة، بعدها قامت حركة الضباط، التى تحولت بعد ذلك إلى ثورة، كما يردّد بعض المؤرخين.
وبمناسبة الحديث عن جماعة الإخوان، التى تمدّدت شعبيتها فى الأربعينات، من المهم الإشارة إلى أن مكرم عبيد لم يكن يجد غضاضة فى التواصل مع حسن البنا، إيماناً منه بأن فى الليبرالية متسعاً لجميع الآراء ووجهات النظر، ما دامت سلمية وبعيدة عن العنف، وكانت هناك زيارات متبادلة بين الباشا والبنا.
وسوف يظل التاريخ يذكر أن مكرم عبيد كان الرجل الوحيد الذى سار فى جنازة «البنا» -بعد اغتياله عام 1949- برفقة والده عبدالرحمن الساعاتى.
ظلت أدوار مكرم عبيد فى الحياة السياسية المصرية تتراجع بعض الشىء مع نهايات الأربعينات، وجاءت حركة الضباط فى يوليو لتضع كلمة الختام فيها.
تشير الدكتورة منى مكرم عبيد إلى أن عمها «مكرم» رُشّح لوضع الدستور الجديد لمصر عام 1953 ضمن لجنة، من بين أعضائها: إبراهيم شكرى، وحسن الهضيبى، ومحمد حسين هيكل، ومحمود غالب، وغيرهم. وفى العام نفسه صدر قرار بتطبيق قانون «العزل السياسى» على مكرم باشا عبيد.
آوى المناضل الكبير إلى بيته، وعاش سنواته الأخيرة يعانى من المرض ومن متاعب الشيخوخة، علاوة على متاعب الغبن، وظل كذلك حتى وافته المنية صباح 5 يونيو من عام 1961، وشارك فى تأبينه الرئيس الراحل محمد أنور السادات، نيابة عن الرئيس جمال عبدالناصر.
المقال / د محمود خليل
الوطن