رسالة لنبذ البؤس
«قرروا صياغة ذاكرة بصرية»، عبارة مذهلة. «قرر» تعنى أن أحدهم أمضى وقتاً واستثمر جهداً فى التفكير ليخرج بقرار ما.
و«صياغة» تشير إلى التكوين والصناعة والترتيب. أما «الذاكرة» فهى تخص البنك المركزى البشرى المذهل الذى يحتفظ بكمٍّ رهيب من المعلومات والصور ومذاق المشاعر ولون الأحداث ومسار الحوادث.
و«البصر» كلمة شاملة تعنى الرؤية وتنطوى على علم وإدراك ونور وخبرة وبرهان.
جميعنا يتعرض لأشكال مختلفة من الصياغة البصرية تظل عالقة بالذاكرة شئنا أو أبينا.
قبح معمارى، روعة تصميم، مشاهد الطبيعة، رحلة فى الصحراء، جلسة على شاطئ البحر، كتل خرسانية، عمل فنى رفيع، مشاهد من حرب أو صراع، تجربة هجرة على متن مركب فى عرض البحر، معايشة كارثة زلزال أو فيضان، والقائمة طويلة ولا تنتهى.
جميعنا يحمل ذاكرة بصرية قائمة على ما رأيناه وأبصرناه على مدار حياتنا فيشكل محتويات هذه الذاكرة التى تصبح خليطاً من المشاهد والمشاعر والألوان والروائح والملمس.
جزء منها لا اختيار لنا فى صياغته، لأننا نتعرض له بحكم المكان أو الظروف. والجزء الآخر نختاره حين نحتاج الاختيار.
لذلك فإن شهوراً من متابعة أخبار تلك العائلة الكندية التى اكتشفت أن ثلاثة من أبنائها الأربعة مصابون بالتهاب الشبكية الصباغى، تلك الحالة الوراثية النادرة التى تتسبب فى فقدان الرؤية التدريجى إلى أن تتبدد تماماً وكيف كان رد فعل الأب والأم، ومن ثم الأبناء بمن فيهم الابن الرابع الذى نجا من هذا المرض تسلط الضوء على قرار صناعة ذاكرة بصرية.
الأم إيديث ليماى والأب سيباستيان بيليتيير حين اكتشفا إصابة الأبناء الثلاثة بهذا المرض منذ سنوات قررا أن يصطحبا الأبناء فى رحلات فى مشارق الأرض ومغاربها كلما تمكنوا من ذلك بغرض «صياغة ذاكرة بصرية لأبنائهم» الذين سيفقدون بصرهم وهم فى منتصف الثلاثينات من العمر، بحسب تقدير الأطباء.
هذا التعامل مع الأزمة أو الكارثة أو المصيبة هو تعامل بالغ الإيجابية. المؤكد والطبيعى والمتوقع أن الأم والأب صُدما وأصيبا بحزن وغضب وكآبة كبرى.
لكن المؤكد أيضاً أن ما بعد الصدمة والحزن والغضب لم يكن إغراقاً فى الكآبة والحسرة والتعاسة، بل «قررا» أن يصنعا للصغار بنكاً مركزياً من الذاكرة البصرية.
كلما سنحت الفرصة، نظمت الأسرة رحلة إلى بلد ما يجوبون فيه معالمه ويتذوقون ملامحه ورائحته. هذا التعامل الإيجابى الهادف إلى البناء لا الهدم، والأمل لا اليأس، واعتبار القادم الذى هو كابوس واقعاً يجب التعامل معه طالما لا مجال لتغييره أو إعادة توجيه مساره، لكن هناك من يتعامل مع واقع كهذا بلطمٍ وولولة وندب وعويل ومزيد من الهدم، وهناك من يتعامل معه بإيجابية وأمل وبناء.
هذه العائلة زارت على مدار عام مضى عمان وتركيا ونيبال ومنغوليا وقبل أيام وصلت مصر.
(وللعلم، هذه الزيارة تحظى بتغطية عالمية واسعة، حيث تتابع وسائل الإعلام تحركات الأسرة عن كثب) تفاصيل تدبير مصروفات قرار العائلة صناعة ذاكرة بصرية لأبنائها ليست فقط مثيرة، لكنها أيضاً تلقى الضوء على أولويات الناس وطريقة تعاملهم مع المآسى فى حياتهم.
التجول حول العالم أمر مكلف حتى لو كان من خلال رحلات اقتصادية جداً، لذلك فإن الأم والأب اعتبرا صناعة هذه الذاكرة للصغار المقدر لهم فقدان البصر بعد سنوات أمراً يستحق بيع أسهم يمتلكها الأب.
المال المتوافر لم يُخصص لشراء النيش والنجف وصالون مذهَّب وغرفة لمزيد من الأطفال و14 طقم سرير و25 منشفة و17 قميص نوم وطقم صينى أو ميلامين 599 قطعة، كما لم يتم استخدامه لشراء هاتف محمول لكل طفل يسهم فى انغلاقهم وتقوقعهم بعيداً عن العالم الحقيقى.
تم استثمار المال ليطلع الصغار على العالم الحقيقى فعلياً حتى يكون لدى كل منهم مخزون من الذاكرة البصرية، ومن ثم رائحة وملمس وشعور وثقافة ومعرفة ونور وبصيرة.
الأم قالت فى حديث مع «بى بى سى» إن السفر مع الأطفال على مدار عام أوجد رابطاً قوياً بين أفراد الأسرة لم يكن موجوداً قبلها.
وقالت بابتسامة عريضة: «ربما لم يكن أبنائى محظوظين بهذا المرض، لكنهم أقوياء بما يكفى للتغلب عليه».بقى أن نقول إن الكآبة والحسرة والحزن واليأس والإغراق فى هذه المشاعر مُعدٍ، أى ينتقل كالعدوى. وكذلك البهجة والاستبشار والسعادة والأمل تنتقل من شخص لآخر.
وبدلاً من تناقل الإعلام لصور أفراد العائلة والأم تندب والأب يبكى وبالتالى الأطفال بؤساء وتعساء وقانطون، يتناقل صورهم والأم تبنى ولا تهدم والأب يعمل ولا يتواكل والصغار وقد انتقلت إليهم عدوى الإيجابية وفيروس البناء لا البؤس. المفارقة هى أن المحطة الحالية للأسرة فى رحلة نبذ البؤس هى مصرنا الحبيبة.
المقال / امينة خيرى
الوطن