محمد الشاذلي يكتب: يوسف السباعي.. هذا أوان المتحف
كان يوم الجمعة 18 فبراير الماضي مناسبة لنتذكر الكاتب الراحل يوسف السباعي، فهو يوم ذكرى اغتياله في قبرص عام 1978 من قبل جماعة إرهابية فلسطينية أرجعت عملها إلى زيارة الرئيس أنور السادات للقدس وبصحبته عدد من المرافقين من بينهم السباعي.
تلك الزيارة ومن ثم اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام التي كانت مبررًا مزعومًا من وراء قتل السادات ووفاة الشاعر صلاح عبدالصبور بأزمة قلبية أودت بحياته لموافقته على مشاركة إسرائيل في معرض الكتاب.
كل ذلك الماضي الساخن تراجع الآن على الأقل من قضايا النقاش العام رغم تواصل رفض غالبية المصريين لتلك المعاهدة حتى الآن، واحتفى التليفزيون المصري بذكرى استشهاد السباعي، وقدم برنامجًا وحوارًا قديمًا، لكن الاحتفاء الحقيقي يظل بأدبه وبالأعمال الفنية المأخوذة عنه.
هذا الاحتفاء ينقصه تخليد ذكرى السباعي وإقامة متحف في فيلته في شارع 8 بالمقطم والذي يقيم فيه حاليًا نجله وزوجته، زرت الفيلا من الخارج، وكان معي الإعلامي الصديق عمرو خفاجي والصحفي المبدع سيد محمود وطالعا محاولاتي الوصول إلى أسرة السباعي المقيمة في الفيلا.. ولم يكن مصادفة أن يكتب لي الإعلامي الصديق طارق الشامي من الولايات المتحدة الأمريكية في تعليقه على مقالي الأخير "أصدقاء الزمن الجميل" أن أسماء عدة من القمم المصرية تستحق من الحكومة إقامة متحف لتخليد ذكراهم.
وقبل أيام أقرأ للأستاذ صلاح منتصر في عموده "مجرد رأي" في "الأهرام" تحت عنوان "في نوتة الحكيم" عن آثار فكرية وأدبية مهمة قد يكون النسيان طواها أو الإهمال بالنسبة للحكيم، وكتب مقترحًا: "هذا العملاق وغيره كثيرون شهدتهم مصر يستحقون أن يكون لهم متحف خاص تتولاه وزارة الثقافة أو مكتبة خاصة تتولاها الأهرام أو دار الشروق أناشد وزيرة الثقافة الهمامة وكرم جبر المجدد برعاية الاقتراح".
إذن أنا لدي حشد من المؤيدين لفكرة المتحف؛ سواء جماعية أو فردية، وتفيدنا الخبرات بأن الكتاب الفقراء أو المستورين والذين لم يشيدوا الفيلات، فحرفة الكتابة لم تعطهم إلا النذر القليل، فإن إقامة متحف في منازلهم أمر غير عملي، ولم تقم المتاحف سوى لأمير الشعراء أحمد شوقي في فيلته "كرمة ابن هانئ" ولعميد الأدب العربي طه حسين في فيلته "رامتان".
أما نجيب محفوظ فلم تكن شقته الصغيرة في الدور الأرضي في العجوزة تصلح، وبضغط المثقفين تم البحث عن مكان متاح وقريب من مسقط رأسه هو وكالة محمد بك أبوالذهب في شارع الأزهر، ويتذكر كثيرون ما جرى لفيلا أم كلثوم في شارع أبوالفدا بالزمالك، والتي بيعت وهدمت لصالح مقاول شيد سكنًا وفندقًا. ثم جرى تعويض الوجدان المصري بمتحف على النيل في قصر المانسترلي بالمنيل.
وأعرف أن الوضع بين مثقفين والسباعي لم يكن مريحًا بسبب كامب ديفيد وبسبب التجاهل النقدي لأعمال السباعي وبسبب السلطة وعلاقاتها المعقدة مع المثقفين. وكتب رجاء النقاش في مقدمة كتابه "في حب نجيب محفوظ" أن الأمر كان مثار حديث بينهما، وأنه قال للسباعي إنه يبتعد عن الكتابة عن أدبه "لأنك رجل مسئول وصاحب نفوذ واسع وخطير، فإذا مدحك ناقد من النقاد قيل عنه إنه ينافق ويجامل ويسعى إلى المنفعة، وإذا هاجمك هذا الناقد فإنه يحس في أعماقه بالاضطراب والخوف".
نفس الأزمة حدثت للشاعر المبدع أمل دنقل رغم اغتيال السباعي؛ لأنه رثاه بقصيدة عمودية، فأصدر شعراء جماعتي "أصوات" و"إضاءة" بيانًا ضده بعنوان: "رجل لكل العصور"، ويتمحور البيان في إدانة أمل الذي كتب قبل اغتيال السباعي قصيدة "لا تصالح"، وخلصوا إلى أن شاعر "لا تصالح" يرثي وزيرًا من وزراء الصلح.
والآن قد يراجع البعض موقفه خصوصًا أن القصيدة غير مدرجة في كتاب الأعمال الكاملة لأمل دنقل. ويطالب الشاعر شعبان يوسف بضم تلك القصيدة إلى الديوان لأن حذفها مزايدة؛ بينما موقف أمل إنساني نبيل، وخصوصًا أنه لم يكن يومًا شاعر سلطة.
وبعد نظرة مزدوجة للسباعي باعتباره مسئولا طوال الوقت عن مجالس ومجلات ثقافية ورئيس تحرير صحف آخرها "الأهرام" ونقيب الصحفيين ووزير الثقافة، رغم أن كل تلك المناصب عطلته في
كثير من الأحيان عن مشروعه الأدبي، فإنه ينبغي أن يُنظر للسباعي الآن ككاتب وأديب فقط بعد أن سقطت وظائف الدنيا.
والسباعي هو صاحب "رد قلبي" و"أرض النفاق" و"بين الأطلال" و"السقا مات" و"إني راحلة" و"العمر لحظة" و"نحن لا نزرع الشوك" وغيرها.. كما أنه صاحب كتاب مهم لم يلتفت إليه كثيرون عن "مصر.. المشكلة والحل".
فكرتي عن متحف السباعي الذي كان مدرسًا في الكلية الحربية ومديرًا للمتحف الحربي ذات يوم، أن يقام في فيلته، وأن يكون مزارًا للمثقفين والمهتمين، وتشكيلًا متحفيًا بالصوت والصورة لأعماله التي تحولت إلى الفن، وأرشيفًا بصريًا لحواراته المكتوبة أو المصورة... وكذلك مكتبه، أوراقه، أقلامه، وصوره وأدواته الشخصية.
يوسف السباعي أو جبرتي العصر كما وصفه نجيب محفوظ ورائد الأمن الثقافي على حد تعبير توفيق الحكيم، في رأي كثيرين روائي رومانسي سجل قصة ثورة يوليو أدبيًا، وأظن أنه حان الوقت لإقامة متحفه التذكاري.
"عن الأهرام"