أين كتب جمال البنا فى المعرض؟
منذ ست سنوات رحل عنا المفكر المجتهد النبيل جمال البنا، وقد اقتربت من هذا الرجل المتواضع الطيب الجسور وسجلت معه على قناة «دريم» أكثر من ستين حلقة عن التجديد الدينى، بحثت للأسف فى معرض الكتاب لم أجد كتب جمال البنا أو أعماله الكاملة، وتذكرت أنه كان يطبعها على حسابه، وإن وجدت نسخة من كتاب فهى غالباً مقرصنة، جمال البنا لم يتزوج، ولم يترك ولداً، لكنه ترك لنا ثروة من كتب التجديد الفقهى التى حركت البحيرة الراكدة، وهنا فى مصر مشكلة المفكر الذى لم ينجب، وهى مشكلة غير موجودة فى العالم المتحضر الذى يعتبر هذا المفكر ملكه وملك المجتمع والوطن، فيبحث عن كتبه وينشرها ويعيد طباعتها، لكنه هنا فى مصر تنقطع طباعة كتبه وينقطع نشر فكره، لأنه ليس له ورثة يبحثون إعادة النشر، قابل نفس هذه المشكلة المفكر زكى نجيب محمود، ولويس عوض، ومحمود عوض، والسندباد حسين فوزى، حاول أن تبحث الآن عن طبعات جديدة لكتب هؤلاء العمالقة، لن تجد إلا نادراً طبعة قديمة لهذا أو ذاك، مدسوسة فى رف قبل التكهين! ويضيع تراث هؤلاء ويذهب أدراج الرياح، وللأسف سيحدث مثل هذا الموقف لهذا المجدد الذى ترهبن فى مكتبته حتى جاوز التسعين من العمر، على عكس الكاتب العظيم إحسان عبدالقدوس؛ لأن له وريثاً مخلصاً هو ابنه الصحفى محمد عبدالقدوس؛ فتراثه ما زال يُطبع حتى الآن، بل ويحارب ابنه فى سبيل عدم المساس بمتن وجوهر الكتاب أو الرواية، وكذلك د. أحمد عبدالرحمن الشرقاوى، الذى يناضل حتى هذه اللحظة لكى تخرج مسرحية «الحسين» إلى النور، ونسمة يوسف إدريس، التى حافظت على تراث أبيها العظيم الممتد الرائع، وأيضاً أسرة الروائى العظيم نجيب محفوظ، وابنة الكاتب العظيم يحيى حقى السيدة نهى حقى.. كل هؤلاء كانوا الورثة الشرعيين لآبائهم العظام، لكن هل يعنى هذا أن من انقطع نسله ولم ينجب أبناء أن نتركه نهباً للإهمال والنسيان واللامبالاة؟ لماذا لا نعتبر أنفسنا نحن عائلته ونعيد نشر وطباعة أعماله العظيمة، ولنبدأ بجمال البنا، هذا الرجل عف اللسان، هادئ الطباع، خفيض الصوت، لا يجيد ألاعيب الخداع والمراوغة والنفاق، استغل بعض أشرار الإثارة الإعلامية طيبته وحسن نيته، فى محاولة نصب فخاخ إعلامية له فى جريمة اغتيال معنوى لدغدغة مشاعر البسطاء الذين يأخذون الدين بالظاهر والطقوس والقشور، وكنت دائماً أحذره من هذه الفخاخ التى تعوقه عن مشروعه الفكرى الكبير وتثير قنابل دخان وزوابع غبار وتشويش ضباب عن أهم أعمدة بنائه التجديدى الفذّ وتغرقه فى معارك جانبية خطط لها من يريدون قتل هذا المشروع، لأنه يفضح تجارتهم بالدين، وابتزازهم لمشاعر المسلمين بأفكار مغلوطة متطرفة، لكن حسن نيته المزمن كان يوقعه فى شراكهم العنكبوتية، كان جمال البنا شوكة فى حلق من يريدون ابتلاع مصر سياسياً عن طريق تخديرهم بشعارات دينية، الرب والإسلام منها براء. جمال البنا كان التواضع يسير على قدمين، لم يكن يطمع فى متاع الدنيا، كان زاهداً فى كل أضوائها المبهرة التى يسيل لها لعاب الجميع، وعلى رأسهم دعاة «الفور باى فور المؤلفة جيوبهم»، الذين يتزوج كل منهم أربعاً من الجوارى الحسان، ويذهب مع رحلات بيزنس العمرة والحج ليعود بالقناطير المقنطرة والهدايا المغندرة ويحصد الملايين من برامج الفتة والفتنة ورنات أدعية المحمول وجلسات وعظ رجال الأعمال، وصالونات الأرستقراطيات المخمليات!! لم يكن من هذا النوع المتهافت على الدنيا أبداً، كان بلا زوجة وبلا سيارة، يسكن بيتاً فقيراً تحتله الكتب، فلا تجعلك تستطيع السير فى طرقاته، يصرف على كتبه ولا يتكسب منها حتى يستطيع أن يقول كلمته دون ضغوط ناشر أو مؤسسة، كان يعيش كصوفى متبتل يحلم بالسكينة والراحة، وعلى عكس هدوئه فى الحياة كان عاصفة وبركاناً هادراً فى كتبه وأفكاره، صادماً يحرك البركة الراكدة الآسنة للفكر التقليدى الذى يرفض الاجتهاد والتجديد، كان تيار التزمّت يكرهه ويعاديه بعنف ويسب ويشتم ويجرح فيه، لأنه كان يُخلخل نظام البيزنس الذى يرتزقون منه، كان يدعو إلى أن ننهل من النبع الصافى للدين قبل أن يكرس تجار الدين وتيارات التخلف لتحويله إلى مؤسسة احتكارية هم فقط الذين يملكون مفاتيحها وشفرتها وصكوك جنتها ويغسلون أدمغة البسطاء بأن المرور إلى الجنة لا بد أن يكون من خلالهم فقط، لذلك كانت محاولات الاغتيال المعنوى لـ«البنا» واختزاله فى سفاسف اقتُُطعت من سياقها وشُوهت لإلهاء الناس العاديين عن النظر إلى أفكاره الأساسية العظيمة من تجديد التفسير وتجديد الفقه وتجديد فهم الأحاديث والتعامل مع متنها، لا مع سندها فقط، وعدم الرعب من فزاعة «انت هتفهم أحسن من الفقهاء القدامى العظام؟»، فهم عظام نعم، وعلينا احترامهم نعم، لكن ليست لهم قداسة وعصمة الأنبياء، وكما هم عظام على مقاس عصرهم، فما هو متوافر بين أيدينا من إمكانات علم ومناهج بحث، يجعلنا نملك الجسارة على أن نبحث وننقب ونجدد.