إدارة الديمقراطية

كيف يمكن لأشباه الدول أن تكون دولا متكاملة الأركان؟، وكيف يمكن للديمقراطيات الوليدة أن تشب عن الطوق وتصير ديمقراطيات ناضجة؟، وكيف يمكن للمجتمعات الفقيرة أن تصير غنية؟، وكيف يمكن للأمم المتخلفة أن تصير أمما متقدمة؟.. والإجابة الواحدة لكل هذه الأسئلة هى أن غير الممكن يصير ممكنا عندما تقوم الدول والمجتمعات والأمم والأطراف السياسية فى نظام ديمقراطى بواجبها فى غزل ونسج الخيوط الواجب غزلها ونسجها، هى عملية دقيقة، ولكن الثوب لا يكتمل فيها إلا إذا تم التأكد من تمام كل خطوة صغيرة قد لا تزيد عن «غرزة» فى الرداء. ببساطة هى كيف تكون الممارسة اليومية، وأحيانا الممارسة كل ساعة، جزءا من عملية الصناعة أو البناء، مع الحفاظ عليه من الهدم أو الحرق أو التمزق. وللأسف فإن ما شهدته مصر، خلال الأسبوع الماضى، وأثناء طرح قضية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية على مجلس النواب، ربما انتهى بقرار يحسم جدلا استمر لأكثر من عام، ولكن آثاره السلبية سوف تبقى لفترة معنا، وما جرى من المعاصى والذنوب فيه ما يكفى كافة الأطراف. الحكم لم يعرف كيف يتواصل مع الناس، رغم ما لديه من وثائق وبراهين، وشاهدين وشهود، واتفاقية فيها من المزايا والصفات ما هو أوسع وأرحب من جزيرتى تيران وصنافير، والقوانين الدولية، وفى مقدمتها قانون البحار، ومع ذلك كانت متلعثمة، ومترددة، ومقتّرة فى الإفراج عما لديها من أوراق، وفى أحيان كانت العصبية ذائعة. المعارضة تصرفت بكثير من المراهقة السياسية، وكما فعلت سابقا عندما انجرفت إلى حلف «فيرمونت» غير المقدس، فإنها توحدت بسهولة مع قناة «الشرق» فى اللفظ والمنطق وعريضة الاتهام، وتصورت أن فوزها لا يكون إلا بوضع مخالفيها فى موضع المُفرِّطين.

طرفا المعادلة فى مصر- الحكم والمعارضة- لم يكونا جاهزين للتعامل مع اختبار معقد، ورغم أن كليهما حريص دائما على تأكيد نية العمل من أجل مصر ديمقراطية مدنية، فإن الواقع ساعة الجد لم يكن فيه حرص على تحقيق هذه الغاية. كانت الألفاظ منفلتة، والاتهامات جاهزة، والخروج عن القواعد سائدا. كان العجب قادما من أن السادة «أعضاء مجلس النواب» أو جماعة منهم على استعداد للتخلى عن حق أصيل للمجلس فى الموافقة على الاتفاقيات الدولية، بعد المداولة والفحص والتمحيص من ممثلى الشعب، إلى سلطة أخرى مازال التنازع على ولايتها مطروحا أمام القضاء. والجماعة الأخرى، الأغلبية، لم تدرك أن المعركة الحقيقية لا تدور داخل المجلس- المحسومة فيه علاقة الأغلبية بالأقلية- وإنما هى تجرى أمام الرأى العام المصرى، بل وبشكل ما أمام الرأى العام العالمى، الذى يرقب كيف يدير المصريون شؤونهم. وفى كل الأحوال لم يكن الحرص كبيرا على المؤسسة، مجلس النواب، ولا على العملية «الديمقراطية»، ولا حتى على الدولة، التى انتهت بعد المعركة مثخنة الجراح حينما تطايرت الاتهامات القاسية لكى تصيب كافة المؤسسات المكونة للنظام السياسى المصرى. وحينما تقل الثقة فى المؤسسات المصرية فإن الديمقراطية ليست وحدها التى تتأثر سلبا، وإنما الدولة كلها.

ولكن ما جرى بصدد ترسيم الحدود المصرية السعودية لن يكون المعركة السياسية الأولى والأخيرة، فهناك فى داخل وخارج مصر ما يكفى للخلاف من قضايا واستراتيجيات وسياسات، ولكن مصر ليس فيها من الطاقة للاستقطاب، ولا لأن يكون الخلاف تنازعا، والتنازع صراعا. وما لم نتعلم من التجربة فإن التراكم اللازم للتقدم لن يكون ممكنا، وربما كان أول ما افتقدناه هو «تعريف القضية»، وما إذا كان أوسع وأهم من الجزيرتين أم لا، وما صلته فى توسيع الفرص المصرية فى التنمية الاقتصادية والحماية الاستراتيجية. وثانى ما افتقدناه النظرة الشاملة حتى لقضية الجزيرتين، بحيث إن العناصر التاريخية والجغرافية والقانونية والجيولوجية هى متكاملة على حالة بعينها، حتى ولو كانت مقتطعة من قضية أشمل وأوسع. وافتقدنا- ثالثا- أنه فى معظم الأحوال لم يسأل أحد الأسئلة الصحيحة، وعندما كانت هناك إجابات فإنها كانت عن أسئلة خاطئة فى الأساس. بشكل ما- وكما نفعل فى كثير من أمورنا- تخيلنا أننا حالة فريدة لم يعرفها القانون الدولى، ولا النظرة للتاريخ، ولا كيفية الحسابات الجغرافية. والحقيقة هى أنه من النادر أن تكون هناك حالة مصرية فريدة لم تسبقها دول أخرى إليها، بل إنه يوجد القليل الذى لم يحدث فى مصر من قبل.

هنا- وأيا كانت القضية المعروضة ومدى «حساسيتها»- فإن الديمقراطية هى الطريق الأنسب لحل كل المعضلات «سلميا»، لأنها فى النهاية سوف تصل إلى التصويت بين أغلبية وأقلية، أما عندما تفشل الأقلية فى أن تصير أغلبية فإنها تضع شرعية المجلس والدولة كلها على المحك، فإنه ليس بمثل هذه الطريقة تُدار الديمقراطية، ولا بمثل هذه الطريقة تُدار الدول، ولا بمثل هذه الطريقة تُدار المجتمعات. وكثير من العقلاء، الذين شاركوا بنشاط فى ثورة يناير 2011، عند مراجعة ما جرى يشيرون بقوة إلى دور المراهقة السياسية واليسارية والثورية فى أخذ الثورة إلى ما آلت إليه، وأخشى ما أخشاه أن هذه الحالة تتكرر مرة أخرى، فى سياق آخر نعم، ولكن لها نفس الملامح والسمات. دعونا لا نقع فى نفس الهوة مرة أخرى، والحديث متصل على أى حال.

 

التعليقات