ماذا نريد حقاً؟!

السؤال الشائع فى مصر: إلى أين هى ذاهبة؟! فيه قدر كبير من التسليم بأننا إزاء قوى جبارة تحدد المسار الذى نسير فيه، وما على أصحاب البصيرة إلا الإفتاء بما سوف يكون عليه الحال نتيجة تفاعلات هذه القوى. وأحيانا تكون فكرة «المؤامرة» كافية لاختزال أحداث تاريخية جبارة فى أعمال آخرين مجهولين أو معروفين، ولكن فى كل الأحوال لا توجد لدينا سيطرة عليهم، يأخذون أمة بأكملها إلى حيث لا يعرف أحد. وأحيانا فإن الاختزال لا يجرى على عمل أو نوايا مجهولة وإنما فى اتجاه أشخاص نعرفهم ونرى فيهم مسؤولين عن أحوال لا نرضاها، وما حدث أنهم اختطفوا منا سعادة من نوع أو آخر، لكى نرث بدلا منها أنواعا من البؤس. وأحيانا ثالثة فإننا نجد اللذة فى السؤال ذاته الذى يدل على حالة مزمنة من الحيرة فى مستقبل استعصى على التفسير والفهم لحالته المزمنة عبر عصور طويلة، كان الإخفاق فيها عبر الملكية والجمهورية، والرأسمالية والاشتراكية، والأصالة والمعاصرة، إلى آخر التناقضات المعروفة.

وحينما طُرح السؤال علىّ كما طُرح على آخرين كانت إجابتى دائما أنه لا يمكن الإجابة عن سؤال إلى أين تذهب مصر، ما لم نطرح على أنفسنا أولا ماذا نريد لمصر أن تكون، وماذا نفعل لكى نحقق ما نريد، كلا السؤالين يتضمن قدرا ما من تحمل المسؤولية لصياغة أهداف بعينها، والبحث عن الطرق الموصلة لهذه الأهداف، وساعتها فربما نجد طريقة للبحث فى الاتجاه الذى نذهب إليه، بدلا من الاتجاه الذى سوف نصل له أياً ما كان ما سنفعله. وبصراحة فإن الإجابة عن السؤالين لا تنفع فيها عبارات عامة مثل الديمقراطية مثلا، والتى كثيرا ما نجدها على ألسنة المثقفين والكتاب، وكأنها نوع من البديهيات القومية المصرية. بالطبع نعرف التاريخ المصرى جيدا، أو هكذا أعتقد، ومن هذه المعرفة فإن الثابت أن النظام الديمقراطى لم يكن من ضمن التقاليد المصرية العريقة، ولم يسبق حفره على المعابد الفرعونية ولا قصور الولاة والسلاطين والخلفاء والملوك. صحيح أنه فى معظم الأوقات منذ مولد الدولة المصرية الحديثة فإن لدينا مؤسسات كالأحزاب والبرلمان والصحافة، وسلطات ثلاث، وما قبلها وبعدها من مؤسسات، ولكن أيا منها لا يعمل ولا يبدو مثل تلك المؤسسات التى تعمل فى الدول الديمقراطية التى تظهر من الكلمات كما لو كانت حلما حقيقيا يمكن تحقيقه. سوف نترك جانبا مشكلات ومعضلات الديمقراطية الموجودة فى دول أخرى، وآخرها الحديث المستمر عن «الشعبوية» وحتى «العنصرية»، ولكن ما يهمنا أن نقاشا حقيقيا لم يحدث عما نريد تعديله فى حياتنا حتى تعمل المؤسسات، كما ينبغى لها أن تعمل وفق الكتاب الديمقراطى. لاحظ حاليا حالة نفاد الصبر من كل المؤسسات المصرية، فكلها بشكل أو بآخر لديها مشكلة مزمنة مع «الصحافة» والصحف والإعلام فى عمومه، ولكن هذه ذاتها نفد صبرها مؤخرا مع مجلس النواب، وبالطبع فإن السلطة التنفيذية كلها موضع نقد مستمر. وقال لى صاحبى «المثقف» إنه قرأ على «الفيسبوك» محاولة طريفة لحساب الفائض الممكن تحقيقه نتيجة إغلاق مجلس النواب، واستثمار الأموال التى تنفق عليه فى مشروع تنموى، وكانت النتيجة أن تصبح مصر أكثر غنى من نيوزيلندا! بالطبع فقد قرأنا عن المشاحنة الأخيرة بين المجلس التشريعى وصحيفة الأهرام العريقة والغراء معا حول التكلفة التى تتحملها الأمة نتيجة وجود كليهما.

المتابعة لكل ما سبق لا تحل قضية «الديمقراطية» فى مصر، ولا تجعلنا أكثر قربا منها. ولو تركنا النظام السياسى الأمثل جانبا، وتخيلنا إجابة لا تقل عمومية مثل «التقدم» على سبيل المثال حتى ولو كان أكثر غموضا، لأن فيه نكهة الازدهار والغنى فى شقيه المادى والمعنوى والتى تلخصها كلمة «الرخاء». فإذا كان هذا ما نريده فعلا فإننى لا أعرف بلدا وصل إلى هذا الهدف، معرفا مثلا بالناتج المحلى الإجمالى، دون المرور بمرحلة واسعة النطاق من التصنيع والصناعة. وفى وقت من الأوقات فإن «التصنيع» الثقيل كان واحدا من الأهداف المصرية الأصيلة خلال الستينيات والتى نظم كلماتها صلاح جاهين، رحمة الله عليه، ولحنها كما أذكر كمال الطويل وغناها خالد الذكر عبدالحليم حافظ. هذا الاتجاه تولد عنه مصنع حلوان للحديد والصلب، ومجمع الألومنيوم فى نجع حمادى، ولكن كليهما مع بعض من الغزل والنسيج، لم يجعل مصر بلدا صناعيا كذلك الذى نعرفه فى كوريا الجنوبية أو حتى تركيا أو مؤخرا فى المغرب. والأكثر غرابة أن ولوج القطاع الخاص فى هذه الساحة الصناعية بل وتصاعد قدراته على المنافسة العالمية كما ونوعا، وفى صناعات ثقيلة قوبل دائما بالشك والتوجس من الاحتكار تارة، ومن الغنى تارة أخرى. وفى كل الأحوال العامة والخاصة، فإننا لم يكن لدينا لا المثابرة ولا الاستعداد للدخول فى الصناعة والتنظيم الصناعى للمجتمع الذى يقتضى دوما نوعا سائدا من المنطق، والقدرة على طرح الأسئلة، ومن يعرف ربما الإجابة عليها أيضا، وباختصار تعليم ومعرفة وعلم يبدو أن كلا منها عزيز وصعب المنال.

أيا كان الهدف، ومهما كان الاتجاه الذى نريده فإن الاستعداد لفعل شىء ما من أجل تحقيق الهدف لا يبدو سهل التحقق. وحينما قامت ثورة يناير فإن الظن كان أن لها أهدافا نبيلة، ولكن لم يمض وقت طويل حتى لم تعد القضية ما الذى تحقق من الأهداف، وإنما المدى الذى ذهبنا إليه فى العودة إلى ما كنا عليه قبلها. وفى وقت من الأوقات وجد الثوار أن الحصول على العيش والتمتع بالحرية وتجسيد الكرامة الإنسانية يبدأ بالصراع الذى كان جاريا فى شارع محمد محمود، وحدث ذلك بينما كان الإخوان المسلمون متفرغين للاستعداد للانتخابات العامة فيما بات معروفا بغزوة الصناديق. وحدثت الغزوة بالفعل بينما كان الثوار فى غزوة أخرى لوزارة الداخلية فى الوقت الذى كان فيه البرابرة على الأبواب. وفى وقت من الأوقات وجد من تعبوا من الثوار أن احتراف مهنة الكتابة فيه لذة كبيرة، أسبوعية أو يومية لا فرق، فى تتبع أحوال الأمة من زوايا واحدة تجعل المسؤولية الوطنية ملقاة على عاتق الحُكْم الذى هو مجرد قمة الهرم، أما قاعدته، وجسده، فإنه برىء منها. المهم أن الشخص ذاته ليس عليه قدر منها تبدأ من التصويت ساعة الانتخابات، وحتى تكوين الأحزاب والجماعات القادرة على وضع البرامج وتجميع المطالب العامة والدفع بها إلى بوابة القرار السياسى. وحتى لا يسىء أحد فهم القصد والنية فإن النظام السياسى بكافة جوانبه التنفيذية والتشريعية والقضائية هو الذى يتحمل واجهة المسؤولية، ولكن هذه الواجهة لا يمكنها أن تعمل دون فيض ومجرى للنهر يحمل الماء من المنبع إلى المصب. هذا ما نسميه ديناميات الحياة السياسية التى لا تأتى من معلقات الأزمنة الغابرة، أو حوليات أيديولوجيات باتت حفريات، أو تخفيف العبء النفسى للهروب من المسؤولية. بقى أن نعرف أن مصر تحتاج من مثقفيها ما هو أكثر من البكاء على الأطلال، أو انتظار لحظة ثورية لا تأتى، وإذا أتت فإنها لن تبعد بالمعطيات الحالية عن لحظة ثورية سابقة. باختصار لا يوجد مفر من الاجتهاد فى أحوال الوطن، والبحث عن سبل للخروج من أحوال صعبة، ومواجهة تحديات لابد من مواجهتها.

 

التعليقات