الإدارة السياسية والجيش
حين يكون المجتمع منقسما والدولة مهددة والوطن فى خطر، فالمنقذ سيكون عادة هو الجيش، وإذا كان هذا البلد ناميا وموارده الاقتصادية محدودة فإنه يتجه نحو المؤسسة الأكثر انضباطا وإنجازا- وفى حال مصر هى أيضا الجيش- لمواجهة جانب من مشاكله الكبرى والاستراتيجية، ويقينا أيضا أن هناك الإيمان بدور الجيش فى بناء الدولة المصرية الحديثة وارتباط جانب رئيسى من المشاعر الوطنية المصرية حول الصورة الذهنية للجيش عماد الدولة الوطنية وأبرز صناعها منذ محمد على.
والحقيقة أن تدخل الجيش فى الأزمات الكبرى مشروع، وليس لحل مشكلة لبن الأطفال، وهو أمر تكرر فى مصر وفى مجتمعات كثيرة، ففشل النخبة السياسية قبل يوليو فى تحقيق الاستقلال الوطنى دفع بالضباط الأحرار إلى القيام بثورة يوليو 52 وإسقاط النظام الملكى برمته، وأن فشل نخبة الإخوان فى الحكم وجرها البلاد إلى اقتتال أهلى حتى تتمكن أبدياً من السلطة دفع الجيش للتدخل حفاظا على المجتمع والدولة التى هو عمادها.
إن تدخل الجيش أو بالأحرى فيتو الجيش كان مقبولا فى المرتين من أغلبية المصريين، ولكنه لم يكن يعنى أنه المؤسسة الوحيدة التى عليها أن تدير وتحكم بمفردها شؤون البلاد، حتى فى عهد عبدالناصر، الذى تدخلت فيه قيادة الجيش فى كثير من الأمور السياسية، وكان بجوارها تنظيم سياسى ومنظمة شباب شكلت وعى الجيل الأكثر تعلما وامتلاكا للروح النقدية وقربا لنبض المصريين، ومع ذلك كانت نتيجة هذه التدخلات العسكرية وخيمة، وكل ما بُنى بعد هزيمة 67 كان قائما على تأسيس الجيش المهنى المحترف غير المتداخل فى تفاصيل المشهد السياسى، وبفضله عبرت مصر فى 73، وبفضله أيضا حافظت على دولتها الوطنية وتماسك شعبها بعد ثورة يناير، رغم الأخطار الحقيقية التى عصفت بدول كثيرة فى المنطقة.
والحقيقة أن معضلة دور الجيش فى الحياة العامة وفى الأنشطة الاقتصادية والمدنية أثارت فى الفترة الأخيرة كثيرا من التساؤلات والانتقادات، فتدخل الجيش فى حل مشكلة حليب الأطفال والمنافسة فى سوق التعليم بمدارس «إنترناشونال» وليس حتى بمدارس مصرية، بالإضافة إلى تدخلات أخرى لا علاقة لها بدوره ولا بطبيعة المهام التى يقوم بها، أدت إلى الدخول فى تنافس مع مؤسسات مدنية أخرى شعرت بالتهميش، وبعضها رأى أنه اتُّهم اتهامات ظالمة بالاحتكار وغيره.
وترتب على هذه الأدوار الجديدة للجيش انتقاد الكثيرين له، وشُنت على مواقع التواصل الاجتماعى وكثير من المواقع الإخبارية حملات تشَفٍّ ممنهجة تعمدت الإساءة للجيش كمؤسسة وطنية، وليس فقط انتقاد أداء النظام السياسى الذى استسهل إدخال الجيش فى كل مناحى الحياة الاقتصادية والسياسية والصحية والتعليمية بدلا من تطوير وإصلاح المؤسسات المدنية، وتركها لقدرها.
يقينا لا يجب أن يطالب أحد (كما يفعل البعض بكل أسف) بعقاب الجيش على انضباطه وقدرته على الإنجاز فى الطرق والإنشاءات والمدن الجديدة، وكأن المطلوب لكى يستريح البعض أن يُجَرَّف كل شىء فى مصر ويُدار الجيش مثل كثير من المصالح الحكومية الفاشلة حتى يستريحوا، إنما المطلوب هو التوقف عن هذا التجاهل والاستعلاء الذى بدأ يُمارس ضمنا وصراحة ضد كل ما هو مدنى، والمطلوب ليس تجريف الجيش ولا الإساءة له، إنما العمل الجاد وفق خطة معلنة على تطوير أداء كل المؤسسات المدنية الأخرى والتقدم برؤية سياسية متكاملة للإصلاح الإدارى والمؤسسى لكل مؤسسات الدولة لا إبقاؤها على ما هى عليه والاكتفاء بوجود الجيش المطالب بحل كل المشاكل.
لم تكتفِ هذه النظرة بقبول الناس بدور الجيش الاستثنائى فى بعض المجالات نتيجة ظروف مصر الاقتصادية، إنما جعلته بمفرده هو المنقذ من كل الأزمات.
والواقع أن الرؤية السياسية الصحيحة التى تعمل على تقدم أى بلد هى التى تدفع بتطوير كل مؤسسات الدولة وتحديثها ومحاربة الفساد فيها لا أن تتقبل بكل سلاسة تدهور حال باقى المؤسسات، وترى فى الجيش بديلا وحيدا، وتحمّله أعباء لا طاقة له بها، وتفتح عليه باب النقد بحسن وسوء نية، فى الوقت الذى يدفع فيه الغالى والنفيس من دماء أبنائه الشهداء من خيرة شباب مصر.
إن الحكم الحالى خلق انطباعا متزايدا لدى قطاع يُعتد به من المصريين بأن استسهال البديل الجاهز، أى الجيش، بحجة أن باقى المؤسسات خربة ومنهارة وفاسدة، عكَس عدم قدرة أو رغبة فى إصلاح باقى المؤسسات المدنية.
مصر لن تتطور ولن تتقدم خطوة واحدة للأمام إلا إذا امتلكت وزارة صحة قادرة على توفير لبن أطفال دون الاعتماد على الجيش، ووزارة تعليم قادرة على وقف تسريب الامتحانات دون العودة للجهات السيادية.
سيبقى الجيش عماد الدولة وحارس الوطنية المصرية، والمحافظ على نظامها الجمهورى ودستورها المدنى، وسيظل هو حائط الصد المنيع أمام أخطار كثيرة، وستبقى أيضا له أدوار اقتصادية استراتيجية بعيدا عن هذه الأدوار التفصيلية التى دخل فيها وتنتقص من دوره وصورته، فى حين أنه بقليل من الجهد والإرادة السياسية يمكن أن تقوم بهذه الأدوار وأكثر مؤسسات مدنية، مسؤولية الحكم أن يرعاها وينميها.
** نقلا عن المصري اليوم