
السودان بين "فكي الحرب والوباء".. الملاريا وحمى الضنك تحاصران جنوب وادي النيل
وسط الخراب الذي خلّفته الحرب في السودان، لم يعد الرصاص وحده يهدد حياة الناس.
ثمة عدو أصغر حجماً، لكنه أشد إصراراً على حصد الأرواح.. إنه البعوض.
في الأزقة المظلمة، في مخيمات النزوح، وحتى داخل البيوت الغارقة في الظلام، ينتقل البعوض حاملاً الملاريا وحمى الضنك، ليخط فصول كارثة صحية تختبئ خلف دخان المعارك.
وفي بلد أنهكته المجاعة والحصار وانهيار الخدمات، قد تكون لسعة بعوضة كفيلة بسحب الإنسان إلى حافة الموت.
كارثة في المخيمات
في أحد مخيمات النزوح على أطراف "الضعين"، جلست أم تحت غطاء بلاستيكي مهترئ، تمرّر يدها على جبين طفلها الذي لم يتوقف عن الارتجاف منذ يومين.
الحرارة تتصاعد، أنفاسه تتقطع، ووجهه يتصبب عرقاً. لا طبيب في الجوار، ولا دواء.
فقط الصمت، والمطر، والبعوض الذي يحوم فوق الجسد المنهك بحثاً عن ضحية جديدة.
مرض قديم يعود أكثر شراسة
لم تعد الحرب وحدها تُزهق الأرواح، بل أصبحت الملاريا وحمى الضنك صامدة في حصاد الأرواح بصمت.
المرض الذي عرفه السودانيون لعقود عاد هذا الموسم أكثر فتكا: أسرع انتشاراً، وأشد مقاومة، وأقسى على الأطفال والنازحين.
ومع ذروة موسم الأمطار، تحولت الأودية والخيران إلى برك آسنة، وصارت بيئة مثالية لتكاثر البعوض.
وظهر نوع جديد أطلق عليه العلماء اسم "البعوض بروماكس" — يلسع ليلاً ونهاراً ويخترق حتى حماية الناموسية.
البعوض لا يرحم.. وشكاوى في العاصمة
يقول عثمان عبداللطيف، من جنوب الخرطوم: "الملاريا وحمى الضنك تفترسان العاصمة.. المستشفيات مكتظة، الأدوية شحيحة، والبعوض لا يتركنا ليلاً ولا نهاراً. الوضع أشبه بأزمة الخريف في العام الأول للحرب، لكنه أسوأ". وأضاف أن انقطاع الكهرباء زاد الأزمة تعقيداً، وجعل ليالي الخرطوم وضواحيها جحيماً مفتوحاً لأسراب البعوض.
وبحسب وزير الصحة السوداني، د. هيثم محمد إبراهيم، تتراوح إصابات الملاريا بين مليونين إلى ثلاثة ملايين حالة سنوياً، ويسجل السودان نصف وفيات الملاريا في إقليم شرق المتوسط. إلا أن الواقع الميداني أسوأ بكثير؛ أكثر من 87% من الإصابات ناجمة عن المتصورة المنجلية، أخطر أنواع طفيليات الملاريا.
من جهتها تقول د. أديبة إبراهيم السيد، اختصاصية الباطنية والأوبئة وعضو اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، إن "الوضع الصحي دخل مرحلة الانهيار الكامل.. فقط خلال أسابيع قليلة سجلنا 1846 إصابة مؤكدة و321 وفاة بالملاريا، والعدد الحقيقي أكبر بكثير".
حمى الضنك تتمدد بلا كابح
وأعلنت وزارة الصحة الاتحادية، الثلاثاء، تسجيل 723 إصابة جديدة وحالتي وفاة خلال أسبوع واحد، لترتفع الحصيلة منذ مطلع العام إلى أكثر من 6180 إصابة و9 وفيات.
ورغم محاولات الرش وتوزيع الناموسيات، تعترف الوزارة بأن المعركة ضد الملاريا وحمى الضنك تبدو خاسرة في ظل ضعف التمويل وترهل الاستجابة.
وحذّرت اليونيسف من أن أقل من ربع المرافق الصحية لا تزال تعمل، وأن ملايين النازحين يعيشون بلا مياه صالحة أو صرف صحي أو حماية. وقال ممثلها: "حتى في أفضل الظروف، الملاريا تقتل الأطفال. أما الآن، فقد دخلنا مرحلة الكارثة الشاملة".
ودعت د. أديبة إلى تدخل عاجل: "نحتاج إلى دعم فوري من منظمة الصحة العالمية، والصليب الأحمر، والمنظمات الإنسانية.. أدوية منقذة للحياة، حملات رش موسعة، ناموسيات، وردم المستنقعات، قبل أن يتحول الوضع إلى مقبرة جماعية".
حرق النيم لطرد أسراب البعوض
ومن شرق النيل، قال أحد المواطنين: "الحمى تفتك بالناس.. والمنازل غارقة في الظلام منذ شهرين بسبب انقطاع الكهرباء.. الحياة مشلولة تماماً".
وفي مناطق أخرى، لجأ المواطنون إلى إضرام النار في إطارات السيارات وحرق أوراق شجر النيم لطرد أسراب البعوض، بعد غياب فرق المكافحة.
بين القنابل والبعوض.. موت يترصّد الجميع
ومنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، دخل السودان مرحلة جديدة من المعاناة: انهيار البنية التحتية، نزوح جماعي، وموت يترصّد الجميع.
وبين القنابل والبعوض، لا فرق كبير في النتائج؛ فكلاهما يحصد الأرواح ويترك خلفه جثثاً، وأمهات ثكلى، وأطفالاً بلا مستقبل.
في السودان، لا يحتاج الموت إلى رصاص.. يكفيه لسعة بعوضة.