مَنْ هم أدباء مصر "الشرفاء"؟

 

 
"أدباء مصر الشرفاء آمنوا على مدار معركة الاستقلال ومنذ فجر تاريخها الحديث بأنه ينبغي أن تكون الكلمات كالأسلحة تصيب من العدو مقتلا في الصميم، وينبغي أن تكون الكلمات كالأوتار تُغنى عليها أمجاد الأبطال، ينبغي أن تكون مثل الشواهد، مثل هالة من النور فوق مصارع الشهداء، ينبغي أن تكون ضوءا مقدسا يهدي إلى المستقبل".

 

أجاب عن ذلك السؤال الكاتب أحمد رشدي صالح في مقال بعنوان "الأدب مع الشعب.. مع المستقبل"، نُشر في جريدة الجمهورية بعد 4 سنوات من قيام ثورة 1952، وتحديدا في 20 يوليو 1956.
و"صالح" كان أحد الكتاب الشباب الذىن أسهموا فى إنشاء "الفجر الجديد"، أشهر مجلة سياسية وثقافية وفكرية في مرحلة الأربعينيات، وكان معروفا بحماسه المتفجر ضد الإنجليز والقصر الملكي والإقطاع.
في كل ما كتبه "صالح" من أعمال، سواء روايات أو قصص أو دراسات، كان ينتصر فيها للإنسان، وللقيم الجمالية الكبرى، حتى إنه وهب 11 عاما من عمره، قضاها في قريته بالمنيا والقرى المجاورة، دوَّن فيها الأدب الشعبي المجهول المؤلف من أفواه الفلاحين، فأصبحت تجربته في جمع الفولكلور ودراسته أول تجربة علمية في الثقافة المصرية الحديثة، وكان يرى أن لجهوده الجبارة ما يبررها بعد قيام ثورة 52، باعتبارها الثورة التي قلبت الموازين باتجاهها إلى الشعب والعناية به وبتاريخه.
رأى صاحب رواية "الزوجة الثانية" أن ما يتصدى له بمثابة تعبير عن تلك المعايير الجديدة التي أرستها الثورة بتصحيح الأوضاع المقلوبة، ورفع الفقراء الذين يركبون الحمير وتغوص أقدامهم في الطين، وتفضيلهم على أهل الوقار من الأمراء الذين يعيشون في بلاط الملوك والإقطاعيات.. كان يحارب من أجل الشعب، بينما أدباء النخبة، كانوا ينظرون بازدراء إلى هذا الباحث الذي يشغل نفسه بأدب شفاهي غير مكتوب، اعتقادا منهم بأن الأدب الحق، أو الأدب الراقي، هو الذي يتمسك بالبلاغة المتوارثة، أو الموروث اللغوي الأصيل، وهو وحده الأدب المكتوب باللغة الفصحى.
كان "صالح" في بدايات حياته شاهدا على سقوط الأدب والعلوم في ظل المستعمرين والنظام الملكي، كان يقولها بوضوح، أن الأدب "ساقط".
ساقط.. ما دام أمير الشعراء هو "شاعر الأمير"، وما دام "خير الأدب"، في نظر "النخبة"، هو ما سار في ركاب أعداء الوطن، وما دام "أصدق التاريخ" ما سمى الثورة العرابية بـ"الهبة الهوجاء والضلالة العمياء"، وما دامت أجمل اللوحات ما رسمت وجه الملك والحاشية، وأحق التماثيل باحتلال الميادين: تمثال إسماعيل أبي الأنجال، وإبراهيم "المجنون"، وفؤاد وفاروق.
كان صاحب العشرين كتابا في السياسة والتاريخ ما بين التأليف والترجمة، يرى أن أدب الثورة الوطنية لا بد له أن يتكلم، مع السلاح، مع الأغاني، مع مواكب الورد، مع الشعب.. يتكلم عن قصص عذاب الأدباء الذين عاشوا مع الشعب من أجل المستقبل.. عن رفاعة الطهطاوي الذي تذوق نشيد الثورة الفرنسية وكتب "منظوماته الوطنية" فكان جزاؤه النفي إلى السودان أيام الملك عباس الأول، إلا أن كتاباته بقيت شعلة قادت حركات الانبعاث الوطني أيام إسماعيل.
يتكلم عن جمال الدين الأفغاني الذي استدعاه "توفيق" إلى قصر عابدين، عندما وصله أنه يحدث الناس عن حقوقهم، وقال له إن أغلب الشعب الذي تتحدث باسمه خامل جاهل، لا يصلح أن يُلقى عليه ما تلقونه من الدروس والأقوال المهيجة، فرد عليه: "إن الشعب المصري كسائر الشعوب، لا يخلو من وجود الخامل والجاهل بين أفراده، ولكنه غير محروم من وجود العالم والعاقل، فبالنظر الذي تنظرون به إلى الشعب المصري ينظر إليكم"، فكان أن نفاه توفيق، زاعما أنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي "الطيش" المجتمعة على فساد الدين والدنيا، ومات الأفغاني معذبا بعيدا عن مصر.
كان أحمد رشدي صالح يرى أن أدب الثورة الوطنية تعود جذوره إلى رفاعة الطهطاوي والأفغاني، وعبد الله النديم، الذي طاردته يد الخديوية والمستعمرين وبحثوا عنه بعد الثورة العرابية ليشنقوه، لمجرد أنه خاطب الفلاحين: "أنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض لتستنبت ما يسد الرمق، لماذا لا تشق ظالمك؟ لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون أتعابك؟"، ومات النديم غريبا معذبا في تركيا.
آمن "صالح" بأن أدب الثورة الوطنية حقيقة كبيرة في جسم مصر، وأنه مثلما كانت صيحات ثورات القاهرة، التي ارتفعت من بين صفوف التجار والعلماء والحفاة، "سلاحا"، كانت أيضا أفكار رفاعة والأفغاني والنديم وكل كاتب وطني شريف جاء من بعدهم "سلاحا"، وأن مصر نسجت تاريخها من دم الضحايا والشهداء و"عذاب المفكرين".
 
التعليقات